
صدرت عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع في 863 صفحة
“في هذا اليوم الغائم جزئياً مع هبوب تيار من هواءٍ بارد، سرَى بيننا شعورٌ بأن ثمّة تغيير في الطقس السياسي، كان ملجأنا عادة بمثل هذه الأوقات من الاحتقان والتشنُّج، مطعم عبدو اليماني ملتقى السياسيين والثوار والفوضويين والمتسكعين والعاطلين وسكارى آخر الليل، حيث يقدم لهم كل ما تبقى في قاعِ أواني الطبخ من أكلات فوضوية وعشوائيّة من كافة الأقطار، بمبالغ رمزية، وبعضها مجانية عندما يكون هنالك معدمون بحاجةٍ لسدِّ جوعهم، أو أصدقاء اعتادوا قضاء ليل نقاشاتهم في حضرتهِ وبين جدران مطعمه الأول، بالسبعينيات بحسب معرفتنا به وبقرب سوق المحرق دون تحفُّظ منهم على ما يطرحونه من أفكار ومعلومات لاعتقادهم بأن عبدو، واحدًا منهم، ولهُ مكانة يمنية جنوبية خاصة…كان يحتفظ لنا بوجباتٍ متميّزة حتى لو كانت زياراتنا لهُ بآخر الليل، كان يقوم بإعداد وجبة خاصة بسرعةٍ خرافيّة… في صباح يوم الجمعة المشبع بحرارة شهر أيلول سبتمبر الخفيفة، تألقت الشمس منذ الفجر وانبثق ضباب شفاف أشبه بالغيم، كان يوم إجازة، واتفقنا أنا وبنفور وعددٌ من الأصدقاء على الخروج في الصباح، أو بالأحرىّ ضحى حينما شع نور الشمس من بين خيوط السُحب والضباب الذي تثيره الريح ويتسلّل عبر الشقوق الخشبية والنوافذ القديمة المطلّة على جهة الشروق. تسري الحياة في مطعم عبدو وتبدأ معه عجلة الوجبات الصباحية، التقينا هناك مع بداية عودة ملامح أعمال العنف التي عمّت الشوارعَ وبدأ تصاعد سخط الناس من جديد، وتعالت أصوات تُطالب بعودة من فُصلوا من وظائفهم، واشتدّت مظاهر الاحتقان مرّة أخرى، كان التوتر بادياً على الوجوه التي يكتنفها الوجوم، وجرى الحديث عن صدامات بين الأهالي في المناطق المختلطة من البلاد. عبدو صالح كان يستمع لنا ولا يتدخل، وعندما نغادر يستوقفني ويسألني هذا السؤال الذي ظلّ يردّدهُ حتى افتراقنا…وعندما رحل لم أكن موجودًا:
“متى تتعدل يا حمد زهران؟” ظلّ سؤاله يرن في رأسي بصدى شجنه كالكوميديا السوداء التي طبعت مسيرته الطويلة، حتى رحل بالألفية الثالثة، ولم يشهد التغيير، وحتى اليوم! سؤال عبده صالح اليمني صاحب أشهر مطعم عشوائي في البحرين وأقدم مطعم شعبي يمني خليجي أوروبي!! في مدينة المحرق الرمادية.

كنا نتطلّع للتغيير معه بحلمٍ ازدهر، واتسع معه الخيال بعد قيام أول دولة ماركسية لينينية بالعالم العربي في جمهورية اليمن الديمقراطية ومع تفجُّر أول وأخطر ثورة يسارية في المنطقة الخليجية بجبال ظفار في سلطنة عُمان. كل هذه الأحداث التي تشكّلت منها أحلام الثوريين والفوضويين، جرَت ابتداءً من نهاية ستينيات القرن الماضي مرورًا بالسبعينيات، حين بدأ الأفول للماركسية والثورات والانتفاضات، وموت الأحلام تدريجيًا، فيما ظلّ مطعم عبدو اليماني شاهدًا على الأحلام الثورية حتى رحل عبدو صالح قبل سنوات قليلة، رفيق السكارى والثوريين والفوضيين ومُطعم العاطلين والمتسكعين.
تذكّرتُ لوحة فنيّة لصورتهِ عالقة بذاكرتي العتيقة التي لم تُمحَ، صورته ليست على الورق فقط، هو أيقونة شعبية ارتبطت بحقبة ثورية شهدت ولادة وانتحار أحلامنا”