طلب أغرب من خيال!

في أغرب واقعة، وهي في الواقع كانت عبارة عن دعوة، ثقافية بحسب مفرداتها، تلقيت عرضًا من مؤسسة ثقافية رسمية، وهي وهي المكتبة الوطنية تدعوني للتنازل عن كافة حقوق مؤلفاتي، لتحويلها إلى مؤلفات الكترونية، دون أن تكون بعدها حقوق بالمطلق وجاء في استمارة الدعوة هذا النص بالحرف:

“أقر أنا الموقع أدناه بأني أذنت ورخصت للمكتبة الوطنية بأن تقوم بتحويل مؤلفاتي المطبوعة الوارد بيانها بالقائمة من كتب ورقية إلى كتب الكترونية ونشرها على المواقع الالكترونية التي تراها المكتبة الوطنية، سواء كانت هذه المواقع داخل أو خارج وذلك بدون طلب تعويض أو مقابل لذلك، ويعد هذا الإقرار تنازلاً مني إلى المكتبة الوطنية عن جميع حقوق النشر الالكتروني الخاصة بمؤلفاتي”

كان ردي بالطبع أقل من ردَّة فعلي حتى احتفظ بانفعالي تحت السيطرة، وجاء هادئًا كعادة الأدباء عندما يكتمون عواطفهم من التدحرُّج والخروج عن نطاق ردَّة الفعل الطبيعية التي لو كانت بغير هيمنة عليها لفقد الأديب حجَّة أدبه.

كان جوابي قصير ومختزل ومحدَّد وله مغزى كالتالي:

طلعت على الاستمارة المرفقة مع المقدمة وبالطبع لا اوافق قطعًا باتًا على هذا التخويل لأنه يتعارض تمامًا مع حقوق المؤلف والتي يُفترض ان يدعمها المركز بدل من الاستحواذ عليها بإلغاء حقوق المؤلف بالإضافة الى أنه لا يعود على المؤلف بأي مردود بوقتٍ يفترض فيه ان تقوم هذه المؤسسات بدعم الكتاب والمؤلف معًاوعليه لا اوافق على هذه الاستمارة واحذر من المساس باي من مؤلفاتي”

ما زلنا للأسف عربيًا ننظر للكاتب والكتاب والأدب والثقافة، كعملة معدنيّة مقابل عملات ورقية بالسوق، فكلّ المهن والوظائف والمناصب مُعترف بها وتنال حقوقها كاملة إلى الثقافة والأدب، يتم اقصائها من قائمة الأعمدة الحضارية للأمم، ففي الوقت الذي يحظى الكتاب والمؤلف بالدول المتقدمة المكانة التي تفوق أي مجال ويعتبر من يمسك القلم ويعزف على الكيبورد ويصدر رواية أو شعر أو دراسة، عمود من أعمدة الحضارة والنهضة، نقيض ذلك في عالمنا العربي الذي آخر صيحة سمعتها في هذا المجال هو حالة الأديب الراحل نجيب محفوظ هذا الروائي الذي شرفنا بجائزة نوبل ولم يأخذ حقه ومكانته سوى بطعنة سكين وبتكفير ومصادرة أعماله…حتى اضطر الروائي جمال الغيطاني للاعتراف لقناة العربية، بأن محفوظ طلب عدم أعادة طبع روايته أولاد حارتنا خشية على أسرته.

هذا ما يناله الكاتب العربي ورغم ذلك يظهر من يطالبه بالتنازل عن حقوقه!         

رواية الطبعة 30!

رواية بلارواية!

 كأرضٍ بدون سماء، كغيوم بلا مطر…ماذا يعني ذلك؟ لا توجد دهشَة في السؤال، فأغلَب الروايات بسوقِ عكاظ الكتب بلا مؤلف! فهل كلّ من سرَد الحروف والكلمات أشادَ رواية؟ بالطبع أسماء المؤلفين موجودة على صدر الرواية؟ وهناك غلاف وأسْفله اسم دار النشر، ولكن تظلّ رواية بدون مؤلف في حالة سرد الراوي قصة أو حكاية مثلمّا تسردها الأم والحكواتي، مع الاحترام لهما، لكن لا يُشكل ذلك رواية حتى لو هناك بذرة عبرة، فإنَّها وسيلة سادَت في عصور الظلام الوسطى وفي مجتمعات مغلقة، مكبوتة، لتفصيل حكايات تنويم الأطفال والكبار! وتسلية وتأديب! لكنها تظلّ حكايات بلا مؤلف بلا سماء…انتهى ذلك العصر الأوسَّطي.

في مذكرات غابرييل غارسيا ماركيز، الوحشية، الموسومة “نعيشها لنرويها” يسردُ ماركيز بمرارةِ زمن الكتابة الصعبة! معاناته مع دور نشر تتمتعبنفسيّةٍ سادية، بعد رحلة تأليف تُشبه رحلة سيزيف مع صعوده بالرواية (الصخرة) الجبل. وبعد تفرغ طويل وشاق لمراجعةٍ محمومة للنص، قام خلالها بحسبِ تعبيره بكثير من الضبط والتغيير والاختراع، وبعد فحص للنص حَفّلَ بالقلق للنسخة الأخيرة “وروحي في راحتي” التعبير له…وبعد تسليم الرواية بشهرين جاءهُ الجواب…

 يقول بالحرف”

“في يومٍ من الأيام سلموني في الهيرالدو- الجريدة التي يعمل بها صحفيًا- رسالة كانت قد ضاعَت بين أوراق رئيس التحرير، أوْقَفَ عنوان دار النشر لوسادا بيونس آيرس قلبي، لكنَّني ملكتُ من الحياء ما جعلني لا افتحها هناك، بل في غرفتي الخاصة. بفضله واجهت بهذا دون شهود على الخبر الذي لا مواربة فيه، بأن الرواية قد رُفضِت، لم أضْطر لأن أقرأ القرار كاملاً لأشعر بالصدمة القاسية بأنَّني سأموت في تلك اللحظة. كانت هذه الرسالة قرارًا رفيعًا من دون غيرتو د توررئيس مجلس إدارة دار النشر يلمس فيها أسلوب ونبرة وغرور أهل قشتالة البيض” ص 435

تأخر الوقت كثيرًا،حبِلَت سماء غارسيا ماركيز بالغيوم، ولكنها لم تُمطر، مسافات فصلت بين بوغوتا وباريس ونيو مكسيكو ولشبونة ومدن ومطاراتزخرت بالفقروالبرد والجوع والوحدة، حتى أمْطرَت غيوم سماء ماركيز، بعد صمت طويل، بجائزة نوبل.

ماذا كان ردُّ فعل لوسادا التي رفضَت عمله؟

هناك مئات دور النشر العربية، خليجية ومشرقية ومغربية، وحتى بالمهجر، تمارس النشر بطريقة حلزونيّة، روايات خليجية وعربية تنفذ مثل السهام في السوق، تُطبع ثلاثين طبعة لرواية غرامية عنوانها الخيانة الزوجية، أو رواية عنوانها غرام تحت السلم! طبعت عشرون طبعة، وعُقدَت لها المؤتمرات والمنتديات للحديث عن مراحل تأليفها…وهي في الأساس بدون مؤلف…وعندما تبحث عن رواية تورتيلا فلات لجون شتاينبك تسألك الآسيوية المسئولة عن المكتبة المشهورة خليجيًا:

هل هذا كاتب تركي؟!

 خلف رفوف الكتب بالمكتبات العربية، تكمن كنور الرواية العالمية، أما في الواجِّهة وعلى منصّة خاصة برزت عناوين حبّ بلا قيود، تحملتُ عذابك…

هذا المقصود من عنوان رواية بدون مؤلف…لقد خطَرَت لي الآن فكرة وأنا أسطر هذه المقالة الخاطِفة أن يكون هذا العنوان محْوَر للرواية المقبلة، وألْحَق بها عنوانًا فرعيًا، رواية بلا نقاد…ثم رواية بلا هوية… لأن هناك رواية كاتبتها مُنقَبة، هل بالغتُ إن ذكرت رواية بلا مؤلف… وقد يفلح الأمر وتتحوَّل روايتي المقبلة عن هذه الروايات إلى روايةكارثية، تنتهي نهاية تراجيدية: رواية بلا رواية!!