فصل من رواية “خريف العرش”

كيف تصوغ عائلة سعيدة؟ عندما يضحى أفراد أسرتك جميعهم تقريبًا سعداء مبتهجين، هل تتصوّر نفسك أن تكون أنت تعيسٌ بائسٌ؟ تصوَّرت ذلك أو تخيّلته؟ إلا إذا كنتَ قد أنجزت لهم كلّ مرادهم وأفنيّت حياتك كلّها من أجلهم دون لفتَة منك لمستقبلك الذي يتطلَّب تفرغًا، ويقتضي مناخًا أن تُخلق فيه أنت أيضًا سعيد، أنا سعيدٌ ومن بعدي الطوفان! هكذا ينحدر غوغاء مرفأ الغرقى في بحر السُلالة، بلهفة يفكر فيها غالبية رجال العصر الذهبي كما لو كانوا يعانون من دوار البحر، عرفتُ آباء وأزواج وأرباب عائلات غنيّة وفقيرة، مسلِمة ومسيحيّة، عربية وأجنبية، حققوا مآربهم دون أن يخلّوا بقانون السعادة، عكس الفقير لله الذي كابد من هيجان طوفان شهوة، أفنى عمرهُ وأهلك حياته كمحرك سيارة سكراب تقطع طريقًا ملتويًا في سفرةٍ تبدو فيها رحلة المريخ أسْهل منها، حتى هذه السفْرة الخرافيّة عبر الكرة الإنسانيّة، التي استغرقت نصف قرن من زمنٍ مشوبٍ بغبار حياة ضارية، كغابة أمازونيّة، بتضاريسٍ مُبهمة وعاصفة أبديّة، مع سفينةٍ مثقوبةٍ تكافح كإنسان بدائي لعبور محيط تعلو أمواجه كالجبال، لم تُرَجح رضا أسرتي عني، أو تُرسخ قناعة حتى ولو صوَّريّة، فلا يمرُّ يومٌ دون أن يلحقني اللوم على التقصير. أرجوك بابا نريد أن نسافر مثل غيرنا من الناس، غيّر أثاث الصالة، لقد عفَن وأكل عليه الدهر وشرِب وتجشأ كذلك، كل صديقاتي معهن سيارات جديدة، كل بضع سنوات يغيّرن الموديلات وأنا وحدي أرزح تحت هذه السكراب! لا تنسى موسم الأعياد مع شهر رمضان يطرقان الأبواب، حتى متى سنظلّ بدون مرآب للسيارات؟ هل أنا مسئولة عن سبعة أولاد؟ قانون الجاذبيّة يقول، تمنَّ واعمل جهدك، وسوف تحقّق غايتك. حقق الأولاد والزوجة غايتهم دون استعانة بقانون الجاذبيّة بينما رافقتني رحلة الجاذبيّة منذ مولدي حتى طرَقتْ الكهولة حديقتي الخريفيّة وتساقطت أوراقي صفراء من شجرة مثمرة، ما زلتُ أعاني حرقة المعدة وحموضة معكّرة لصفو أيامي، ومستجدات العائلة تكافح مع الخريف الذي حل مبكرًا للقضاء على ما تبقى من أوراقي الخضراء، ثمة تسوية أفكر فيها بعقدِ صفقة وإن كانت خاسرة ولها آثارها المُدمِّرة ولكن لابد من خبطِها ببرميل من حمض الستريك لتنقية جروحي بملح الليمون، وحفظ كيمياء حياتي في حيوية عضوية عن الانتهاك، فلا مفرّ من دخول مزوّغ في تسوية تلطخ حياتي باللون الرمادي، لتُعيد ترميم بناء عمر مستند على حائط فضي من بقايا لون شمس طباشيرية، فيما أنحو بطريق مشوب بأشجار يابسة محنطة من أوراقها الخضراء، إلى عش الدبور خردله بن سماعة، غير مبالٍ بلسعه، مكتفيًا بتنفُّسٍ من قشرتي،  فثمة فواتير ضمن كشف حساب سامق حان وقت تسديدها وبدايتها تحرير ذاتي من رق وعبودية الأسرة المُهيمنة بخناقي كشرنقةٍ من أزهار عباد الشمس التي غثت محيط حديقتي بغابةٍ وحشية ،اخْتلست أنفاسي ولو أن ذلك تطلب مجازفة، فالذي لا يفهم ألغازًا محيرةٍ عن أبنائي وزوجتي لن يفكّ أحجيّة الرحلة المُسهَبة التي بدأت منذ المخلوق الأول وحتى الأخير. لم أملك جرأة على ركوب موجة دهر معاكِسة أدفن فيها أولادي وزوجتي في ركام نسيانٍ جنائزي وعزفِ سمفونيتي الذاتية. انساب الزمن كخرير مياه نبعٍ أبدي من بين أيامي كما ينساب رواء السماء من بين ضلوعي، وإذ بالزمن يطوي من بين ما يُشمّر عنه أحلامي التي غمرَها ضباب حياة استوائية، ملفّقة بإنجابٍ متواتر، وكأننا أنا وضحى ربيع بمسابقة سباحة في بحر الوقت الميّت، حتى غمرتني سحابة تشبه ظلّ القيامة، تزخُ فوقي أمطارًا من ديون مدَلهمة وصواعق من قروض مؤجلة وبروق من سلائف أفقدتني توقير أعز أصدقائي واحترام زملائي بالعمل، غفلتُ عن نفسي حتى عميتُ عن رؤية ضوء مصابيح الشوارع، فتراءت بأشعتها الشاحِبة كسحاباتِ فواتير بانتظار التسديد، تتلوها غمائم من إنذارات محاكم ونيابات ولا تخلو من مقبلات تحذيرات بقطع الكهرباء والهاتف وحتى الأوكسجين، وإعادتي لعصرٍ حجري، أحيا فيه بغاباتٍ تحدوها وحوشٌ ضارية وكهوف نتنة، أنذرتني كوابيسي الليليّة بالعودة لعالمٍ بلا أحياء، فقط غيوم وأمواج ورياحٌ تصْفُر في رأسي، وأولاد كالجراد بموسم الغبار ينبعون مثل رمل البحر “يا إله الطبيعة الصامتة وضياء القيامة، من أين ينبع شلال الأبناء؟” لم ينْتشل تفكيري الأغبش سوى قرص زناكس الإلهي، تطبق إثره جبال الهملايا عليَّ، فلا أتذكّر من أولادي سوى السهم الأول الذي أصابني بفرحةٍ زائغة، سرعان ما تلاه وابلٌ من السهام النافذة، فأحالت المعجزة رصاصة هوائية، تصيبُ ولا تقتل، وفي حالتي المُهلهلة، كانت الإصابة أشدُّ فتكًا من القتل. اختبرتُ ذلك الامتحان المهين للمجد بأول ليلة ينام فيها بكر أولادي بلا مرضعة، فقد أصاب صدر زوجتي جدب امتدّ مواسمًا سحيقة، تردّدت أصداء احتجاج أول غيث في النسل تعلقُ بذاكرتي مع حمد باكورة حصاد الحبّ وليته ترك أثره في تركيبته، عندما يسومني اليوم باحتجاجاتٍ وخيمة على فقري وخواء فهمي لعالم ٍخذلني بسبب قلة حنكتي “لا تتهمني يا ابني بالتقصير، كنتُ أول إنسان بدائي تخذله الغابات وهو يركض وراء كسرة خبز، وقرص دواء وقطرة حليب تسدّ الأفواه”       

“لماذا أفقرتنا يا أبي؟ كان بإمكانك أن تصبح وزيرًا بذكائك الذي تتباهى به معنا”

كان حمد شرارة أول زخم حبّ، هبط من جنةِ عدن كما أحسّست، كان الأكبر والأطول والأصعب، حملناه معًا كحلم ليلة شتاء عاصفة الرياح، ضخم كجبل دخان، رأسه جلّل، ولونهُ أبيض نقيض أخوته الأقل بياضًا، رأسه محشو بخيال رضيع، ولا شيء يملأهُ سوى رحلات بحرية، هوسه الصيد، موظف حكومي متقاعس لا يترك فرضًا يفوتهُ لصلاة حتى بالغبش، ولشدّة تمسكهِ بالدين فرض نظامًا ظلاميًا بالورع في المنزل على شقيقاته، انتحل صفة التقي رغم همجية فطرية كادت تجعله مغارة سلفية، لكنهنّ فرطنّ من هيمنتهِ بسبب قوة شخصية آخر عنقود في شرفة شجرة  الجاهليّة الحديثة بزمن الصنميّة الجديد، فجر التي وُلِدت متمرِّدة وهي رضيعه، وشاركتها انتفاضة التمرُّد فاطمة كبرى الشجرة، هادئة، واجِمة، لا تسمع كلمة منها ولكن إن ثارت، اهتزّ الكوْن، أنا ذاتي، فقدتُ السيطرة عليه في مواقف عدة وتوَّلت الصغرى فجر التصدّي له. ليس تقاعسٌ مني وأنا أجْرجر نفسي كقاربٍ بدون شراع، كان همي سدّ تلك البطون وإغلاق الأفواه واخلاء المنزل من الديون ووقف هدير سيول الإسراف الذي كان من وجهة نظر الأطراف الأخرى بالأسرة تقتيرٌ بلغ صورة البُخل، بينما جيوبي تمزّقت وفرطت آخر الأوراق الملكيّة منها دون أن يحفل أحدهم ويتبرّع بالسؤال، ماذا بعد؟ كان ذلك بعكس الرياح وإحداث فجيعة بالقارب، دون أن يعيد ترميم الذات وانعاشها وقد أوشكت على حافة الانتحار الخيالي، يرافقني إلى فراش التخدير برفقتي هلوسة تحمل جثماني وأنا حيٌ أتجرّع فضلات نوم متقطع يشبه حقن الأقساط المتكدّسِة من دون أن تترك ثقبًا في فضاء النوم يقتحمه الأوكسجين. كنتُ كبيتٍ بدون جدران، أنام في العراء ومن حولي تعبر تماثيل  ومشاة فضوليون، بتُ مجذومًا بعدوى الإفلاس، كحال المتساقطين من لائحة المُسْندين، مكشوفًا، عاريًا كحسابي البنكي الذي افتضح في أنحاء العالم وكأنني مالك الملايين وفجأة غرق قاربي، كنت أسمع طنين أذنيّ وأظنّ أنها طبول حرب أهليّة مع ذاتي، تُعلن حشودها قرب حدودي الجزافيّة التي تعد محميّة حتى من هجمات حشرات نافعة كالنحل، تلك قيامتي التي رأيتُ في بدايتها الحبّ بكأسٍ من شراب جنة خزامية، وتخيّلتُ الأبناء زنابق زكيّة لها لون الطهارة معلقة بسماء حديقتي، حتى اتحفتني بليالي عشق كرزية ملتهبة، لم أحكم سيطرتي عليها، بأفواهٍ لم أتوقّعها  قبل اندلاع حرائق الغرام التي أشعلناها أنا وضحى ربيع، إلى أن هناك مطافئ لم نستدعها في غمرةِ نيران الحبّ، فانزلق شغفٌ تائهٌ وحال دون منع تسرُّب وقود الحبّ وأخفقت كل محاولات الإنقاذ المتأخِّرة للحيلولة دون سقوط قذائف الهاون على أهدافها، فجاءت إصاباتٌ مباشرة. اسقطت سبعة أرواح حية تتلهف بفضاضةِ على الرضاعة لحليب الطفولة. لم نسترح أو نتراخى، كانت مائدة الشهوة عامِرة طوال النهار والليل بشتى ألوان الفاكهة المحرمة…هكذا بدت، وبلغت ذروتها حين تساقطت بذروةِ نضوجها حتى بلغ تمثيلها دور عاهرة بروحٍ شيطانيّة، هاودتها لتتساوى حركاتنا ونحن نقطفُ ثمار الجنة، هكذا ظنّناها، لكن سعيرها كان الجحيم!   

هبت نسائم بأرواحٍ بهيجة بعد حمد البِكر ورياح فاطمة الشقيقة الكبرى، تزفُّها طبول غبطة الأنثى الأولى بسلالة عيسى النبهاني وربَة جماله ضحى ربيع، هَلَّ قمر فاطمة تبجلهُ قافلة الأزهار ومعها وسام الجمال وهي رضيعة تيقّنا لها بقامةٍ تماثل هيبة شقيقها حمد وبجسامة بنيّة لا تمحو عنها رشاقة جسد ندي الصباح ولون بشرة بيضاوي انتزعتهُ من طبيعة بدائيّة، ومن الأم حصدت شعرًا طويلاً مع لون عينين سوداوين كمعظم أغصان شجرة الأسرة، وحمدتُ السماء أنها لم تقتبس عني شيئًا لكن ذلك لم يُلغي شرفة نفس النبهاني من ضفاف الأب، تكبدتُ معضلةٍ في الرأس رغم ما بينته كل الفحوصات التي أثبتت سلامتها، لكن أزمتها كانت في صداعٍ مُزمن يجعلها تفقد السيطرة على نفسها وتُجرَّد من الأوكسجين فتُهشم بالصراخ والعصبية كل ما حولها، ويبلغ بها الألم حدة، تتمنى الموت… خفّ ذلك وإن لم يزل بعد زواجها وانجابها فتاتين وصبي، روان ومريم ومحمد، وزادها ذلك علاقة حميمة بأسرتِها فهي لا تكاد لا تغادر حديقتنا رغم استغلالها بمنزل الزوجية… زوجها ضابط بالداخلية ومن طبعهِ التباهي برتبتهِ وعلى قدرٍ من وسامة، ما عزّز لديها تباهيها في زواجها رغم بعض المشادات المُملّحة والمتبّلة الجديرة في رفد الحياة بسرْمديّة، تعمل موظفة في هيئة حكومية بالجوازات والجنسية ومن عوائدِها غزلَت لها علاقات قيّمة بكثيرٍ من ذوي المراكز والنفوذ وفقراء أيضًا، واكتسَبت ذخيرة عبر تلك الوشائِج، وقطعت شوطًا في نسج مصالح وإن كانت ضيقة، فقد أبْلت، وهي نموذج للزوجة والموظفة المثاليّة وجاسَت نجاحات صغيرة بحدود طموحاتها التي لم تستغل صلاحيتها كما فعل الأقل منها مسئولية، وإن لم تخلُ من إخفاقاتٍ عابِرة مبعثُها صداع الشقيقة الأبدي…ترافقت ولادتها مع هبوط أسهمي في بورصة الوظيفة التي شغلتها بالإعلام والصحافة عندما سادت موجة قانون أمن الدولة، فقدَت الصحافة وقارها الصوّري، فطوّيتُ قانطّا أوراقي البنفسجية ذات البريق التحرّري وعزيّتُ نفسي بتقديم برامج إذاعية لأنعش جيبي وأسدّ أفواهًا لم تكتمل، فبعد حمد وفاطمة، هدرَت ماكينة التفريخ التي اقتنيتها ولم أتوقّع أن تحكم قبضتها عليّ بأفواهٍ أخرى وخسرتُ معركتي مع تحديد النسل دون الحيلولة في الحدِ من التفريخ رغم استخدام أسلحة فتاكة كأقراصِ منع التفريخ والأغشيّة الواقية، فجَنَحت سفينتي مثقوبة من فرطِ الصدمة، عند مرفأ مريم الأخت الوسطى…هبطت بمظلّةٍ في منطقةٍ وعرة، عانيتُ خلالها من تدني مُرتبي وتضاعف مصاريفي مع وقف مقالاتي وكانت مصدر غوث. منذ ولادتها تنبأ لها كل من رآها بساعتها الأولى بأنها  قصيرة القامة نسبيًا وأقل شقيقاتها جاذبيّة مما زعزع منذ طفولتها في نفسها الثقة، فكانت تقوم بطلاءِ وجهها بشتى أدوات الماكياج وأقصاها، وقد جعلها ذلك في بداية الأمر مثار سخرية وتندُّر عندما كانت بسنّ الطفولة بعدها أدرك الجميع خطأهم الفادح ما أن تبينوا ردة فعلها بعدما نضجت وأفرز ذلك فيها شعورًا بالإحباط جعلها تفقد الرغبة بالتفكير في الزواج أو العمل أو حتى اكمال الدراسة رغم أن الأمر لم يتعلق بدمامة أو بعدم مسحة جمالية، فقد كانت على قدرٍ من الجاذبيّة وقد تقدم لها عددٌ من الخاطبين ولكنها فقدت رغبة الارتباط أو حتى  مجرّد التفكير بعلاقة واكتفت بالاهتمام بالأسرة وخاصة أطفال اختها فاطمة وبالأخص طفلتها مريم التي فرضت هي نفسها، تسميتها بذات الاسم، تيمنًا بها والتزمت بتربيتها وتبنيها. تعتبر نفسها الوالدة الحقيقية للحفيدة مريم من فاطمة، فرَطت من قطار الزواج برغبتها واكتفت برعاية الأسرة ولشدة تكريسها لوقتها وجهدها وتفانيها في رعاية الجميع، بدا عليها أنها أكبر من عمرها الحقيقي، حتى أنها بدت أكبر من عمر والدتها ضحى ربيع التي احتفظت برونقها، فقد ظلّت محافظة على الكثير من مظاهر التزيين والعناية بنفسها، ولا تترك مناسبة سعيدة أو حفلاً أو زواجًا أو سفرًا مع صديقاتها إلا واقتنصتها، كانت في طائرة متهالِكة أو سفينة جانِحة أو قافلة شاحنات مكتظّة، ولو زجت بنفسها عنوة في حربٍ ضروس مع الزوج وبعض أبنائها. كنتُ مثل ملك لا يَحكُم، فرطت سيطرته على قواته، فلزمتُ الصمت لأنني كنت جلادًا وضحية، فعندما يتمدّد صديقي الشرس بمنتصف ليلة شتائيّة مكسوة بالزمهرير وهناك ضوء أحمر يرتعش عند منعطف فراش متورّد بوهجِ لون بشرةٍ زمردية، يتلألأ منعطف مُهلك ومن المُحال التوقف عند الإشارة الحمراء وقد سفك الشارع برميلاً من شهدٍ يطلّ من شرفة تمثيل دور عذراء أو عاهرة، أو أميرة، أو مغْتصِبة، تليه دراميات نقيضة، فأنتحل بدوري مُغتصِب أو عاشق مفطور الفؤاد، يستدعي إفساح الطريق للصديق المُتوتر، القفز من أعلى قمة حتى لو كنتُ بأقصى كوكبٍ خارج الأرض، فغصن الزيتون البرونزي في ضوءِ مصباحٍ برتقالي شاحب، وعند بقعة جليدية مع موجة شتاء تعوي فيها كلاب الشهوة، حتى لو شرّعوا قانون أمن الشغف وأشرعوا بوابات سجون الهيام، فالسلطة التي تحكمني بتلك اللحظة تفوق قواتي كلها حتى لو كانت بتحالفٍ مع قوات دولية، فحكومة ضحى ربيع الجسدية  بأريجٍ طبيعي جهنمي، منبعث عن مزيجٍ سحري وعبير عرق إبطها الخلقي، وضراوة عطرٍ اختارتهُ بذكاءٍ غريزي، كل هذا يجعلني أتفرس بهولٍ في إبهارٍ يليق بذاك الجبلين الهمجيين يستفزني نحرهما، ذاك النحر الجليدي الذي يُشبه مصب نهرٍ، ينسل من أعلى صدرها موازيًا بين النهدين، كان ذلك المصَب الضيق أولى مجازفاتي بإطلاق سراح شقيقي المُخْتل في العبث بقناة العبور قبل غزو المضيق وانتهاك حرمة صمت ضوء الغبش حتى بلوغ الانتحار بقمة جبل ناري، حاصدًا سلة فاكهة ليلية مسعورة، عند ذلك الحد الآيلة فيه السماء للانتحار، والتي بإمكانها أن تُطيح بحكومات العالم وليس بالفقير للشهوة. كنت أوْلي بعدها شطر وجهي ناحية الجدار وأسألها بغريزة منتهيّة الصلاحية وثمة زبد عالق بفمي وبقايا لهفة متعثِّرة مستعدة لانتفاضة ثانية:

“هل ابتلعتِ قرص قانون منع التفريخ؟” في نظرةٍ رثائيّة متواطئة تشحذ ذخيرتها من ابتسامة مراوغة ونبرة رشيقة مخادعة، هي ما فتأت نصف متدثِّرة بملاءةٍ صفراء شفافة، انبريت عن فخذين مصبوغين بلونين سحريين، وفي سطوة ارتعاشه من خدين موردين بجوفِ ضوء برتقالي إلهي غلب على ساحة حربٍ ضارية خسرتُ فيها قواتي وما زلتُ مستعدًا لمعركةٍ تاليّة، تأتيني نبرتها مراوغة، توهمني كأنني أنا المُنتصر في منازلةٍ فقدتُ فيها سمائي وبحري وأرضي:

“لم أعد استعمل تلك الأقراص لأنها تسبب نزيفًا، أنت تعلم، ذلك ولا تكف عن السؤال إلا بعد أن تتنفس الأوكسجين”

 تلك كانت سطوتها عليّ، لا أتبين نتائجها إلا بإعلان مباغت رفع راية حمراء، بينما الراية البيضاء معطّلة عند بوابة المداهمة، فات أوان الانسحاب، فأدرك متأخرًا فوات وقت الارتداد وثمة عصارة بشرية تتكوّن منها روح حيّة منذ هذه الساعة المسعورة، وعلىَّ أن أشحذ جيبي وأبحث عن دعمٍ دولي…  

عندما يضيق بيّ الحال، ألجأ إلى قلعة السحر النبهانية بشارع السوق، الذي تتحصّن بين أطرافه وفي ثنايا أدغاله حشرات وثعابين ووثائق صفراء سرية، إنه المكان الذي أتجرّد فيه من المشاعر والشهوات والأفكار وبريق المال والوجاهة، وأنسى الأحلام، أغوص في شعاب أسرارهِ وبراكين غرفه، وأروقته بموسيقى هدير أصواته المُبهمة، منبثّة من فجواتٍ غير مرئيّة، أتنشق غبار ماضٍ سحيق تتراءى ظلاله في الشقوق والروائح وأطناب الأغبرة الصفراء، يُخيّل إليّ أنها رذاذ تبرٍ دفين ولكنها نثارة أغبرة أشدّ فتكًا من بارود عصور الظلمة. هنا خلف جدران هذا الحصن الملاذ، تغفو بتؤدةٍ رخيّة كل مشاعري المكنونة، عانقتُها معي بفراشِ شرارة حب وولِع وسجن ووظيفة نحْسه مرتبطة بقلم وكلمة حرّة، وأغلال أبناء انزلقوا بغفوةٍ وأضغان حساد محيطين على ماذا؟ لا أفقه في هذا الشطر من العالم سوى أنني أكنسُ نفايات عقلي وقلبي، وأُهيم في رعود وبروق منزل خلفه خردله أو من كان ينوب عنه وبمداهمتي لمنزل خردله الوهمي بشارع ضوضاء سوق المحرق العام، تلقيتُ بوجهي المُتحجِر بالغبار الكونيّ، هدية الزمن العاثر، بكومةِ خراء، تستقبلني بأحداقٍ هصرتها خمرة هباء مقطّرة في براميل القيظ، غالبًا ما تداهمُها شمس نقية بأشعتها، تأتي مهداة بأطناب أشعة غائِرة خلف الغبار، فأفقد بوصلة ما إذا كان الوقت ليلاً أم نهارًا؟ تحجبُ غيوم صيفية وغبار خريفي، وربيع خيالي قرص الشمس…عندئذٍ تهرب من ثقوب النوافذ وشقوق الأبواب والشرفات، حشرات وطيور، لا أعرف كيف تمكّنت من الاختباء بباطن غبارٍ كالوحش، أتمشى بحلقاتٍ مُسهَبة من شذرات الغبار، تولد وتولد كلما توغّلتُ بالغرف والدهاليز وكأنها أفواج نملٍ لا تنتهي قوافلها، تتوالد، ثم تتوالد، هي والغبار، وتُلقي بظلِّها فوق أكوام بيوض الثعابين وخراء الفئران، “يا للهول” أفلتُ بمعجزةٍ وأُقسم ألا أعود ثم أنكص…

توغّلتُ مساءً لوهلةٍ قصيرة، مساءٌ مهولٌ مع هبوب نسمات شماليّة جافة، مشبّعة بالغبار، ورطوبة عمّت بين دفات المنزل فيما شاع الهَباب يزكم أنفي فأسبح بموجةِ نعاس تُشيّعه أنزيمات حشرات وجراثيم أتنفسها. مساءٌ غرائبي ككل مساءات هذا المنزل، تهبُ ريح جنوبية مرة وشمالية أخرى آتيّة من محرقةِ زمنٍ تليد مشبّع بروائح جيف قطط وكلاب بوحيٍ من حرارة وريح ماضٍ مبهم.

لم أستقر بمكان، ظلّلتُ أطارد نسمات شمالية سرعان ما احتكت بزخاتٍ من نسمات جنوبية لزِجة وحرارة مُفجعة لاح معها قرص الشمس من نافذةٍ عليا مُهشَمة يعلوها غبار يتسرْبل منهُ بخار. حسمتُ أمري وتجوّلتُ بين صناديق أزليّة نامت لثلاثِ قرون، ولازالت حيّة، هي ميتة ولكن جوهرها ينبض بالأسرار. اقتربتُ من إحداها وبدفقات متتالية من خفقان قلب ورعشات بالأطراف مع احتقان بالتنفُّس، انعقفتُ على صندوقٍ مبيّت ومضرَّج بغائط الفئران وبيوض الحشرات، لم يسبق أن فتحته أو تجرأت لما كان يوحيه من ديمومة خوفٍ مبعثهُ تلك الرواية التي تسربت عن دموية خردله المشوبة بأذيال سلاطين ياروبا الأسطورية التي احتلت البحرين وسفكت أرواحًا وشرّدت نفوسًا بحجّج دحر الفرس، اختلطت ألوان الموت ولكنها جاءت ميتة واحدة، إذ رافق انزال السُفن وحمل السيوف والخناجر، جنونُ رجالٍ عمالقة لم يرَ السكان مثيلاً لهم في سابق الأزمان، تداعت تلك الصورة المُتخيّلة وأنا أحتد بكل ما أوتيت من زخم عضلاتٍ وحماسة وشغف الفضول لهتك قفل صندوق الموت الذي تستدعيني أسراره. تصنعتُ البأس الذاتي وأوهمتُ نفسي بالسيطرة على خوفي، استدعيتُ رائحة قهوة داكنة تجلب السعادة كلما تنشّقتُ نكهتها لأُبعد الوجل، وبينما كنت أعالج بمعنوية متدنية مسعى فكّ القفل المعتق الصدئ، صدرت مني فجأة زخات من ريحٍ فلتّت من شرجي دون إرادة، أعادت لذهني ما كان عليه جدي بختام عمره المديد حين فقد التحكُم وظلّ سنواته الخريفيّة يهدر موجات من ضراط بلغ حد التصدي له بمعطر الغرف. كنت على وشك الضحك من نفسي حين باغتتني نوبة غثيان انتزعتني من رؤية الصندوق الذي انفجر في وجهي بكومةِ كائنات خلقيّة أدنى من حشراتٍ في هالةٍ من نشوةِ تحرُّر من غيهبِ القرون المُنصرِمة، تتضوّع روائح الغزو العماني ومعها صورة نورانيّة انبعثت بظلالٍ شفافة من بين دفّة حزمة محتويات غرائبيّة بثنايا صندوق خردله بن سماعة النبهاني تويني…

أريج حديقة تتدلّى من سقفها مرايا وزنابق أرجوانية، تفوح من ثناياها ذبذبات مُعطرة تسربل عبقها خياشيم الدهر فتوْقظ أمواتًا وتُحرك حجارة وتبث الحياة بالأصنام، تتحرك أعمدة الأرض، وتخلع السماء حجابها، وتبرز أريكة المُلْك المذهبة، مؤطرة بياقوت الرب الذي يحكم من في الأرض باسمهِ، نتأت بوسّط حديقة المُلْك نافورة بلورية تريق مياهًا زرقاء اللون وتهبُ من أطرافها نسمات كالثلج. اضطجعت ممدّدة ساقيها في الهواء بخيلاء آلهة الجمال، بفستان أصفر مزهر زاهٍ متعريّة حتى الفخذين المرْمريين يبدوان موشيين بلونين ممتزجين، بالأبيض والبرونزي مزخرفين بنجماتٍ سماوية، عيناها الزجاجيتان للأعلى وكتفاها العاريين يسبحان على نضدين من طرفي الأريكة الملكيّة…

“استيقظ!”

أتاني صوتٌ خزامي هزني من عرشِ الصمت الذي توّحدتُ معه منذ فُتح صكّ الأخلاد، تنبّتُ رائحةِ جنة آتيّة من جهة امرأة ممدّدة على طرف نهرٍ من نجوم السماء بظهيرة غروبية، لم أفطِن لفحوى صوت حرية منحتها تلك السماء حتى تصفى ليّ من صدى الصمت الجنائزي الذي يتولّى الترنّم في خبايا ذاكرتي الاستوائية وقد خطفني من ثنايا عرش الرب، ذاك الغناء الملائكي نقيض الجنازة التي أمامي الآن بورقةٍ صفراء أكل عليها الدهر وتجشأ حتى بلغت حافة الولوج في مملكة الإمام خردله. يا له من مساء خريفي يشبه القيامة، خلفتهُ تلك الحروف المتآكلة لأجتر بطريقي نحو رحلة تاليّة إلى ياروبا، لقد سرقتني عنوة ومضة أسرٍ أكثر رقة من نسمة خجل، حين تدفقَت عبر نسيج الغثيان والخيال، صورتها التي حفظتها ذاكرتي منذ الزيارة الأخيرة، جاءني هتافها:

“استيقظ، أنا ماريانا بنت مخزوم تويني” يا للهول، كنتُ قد قطعتُ شوطًا في قراءتي لخيوط عنكبوت بقلعة سوق المحرق الأثريّة التي خلفها جد، جد، جدي، وترمّلتُ على ورقة صندوق مُبيّت منذ غزوة البحرين، كلمات وحروف لم يمحها الزمن كأنها مُنزلة من سماء وهمية، وقد سطَرت رواية الغزو والثراء والفقر، بحبرِ موتى بلا قوائم، أطلوا من شرفات الشؤم وقد خلفّوا محابر عظامهم للسلاطين الأولين ليأتي من بعدهم حراس قبور يشهدوا عريهم، فيما حوريات السلاطين والملوك الشرهين، يسطرُّون خلالها بعروشهم المهزوزة، رجوليات شكّك الزمن فيها…

“استيقظ، أنا ماريانا بنت مخزوم تويني” يا للهول.

جلستُ أقرأ بورقةٍ صفراء وصوت ديكة الغروب تؤذن بفقدان الصبر، ولم انتبه إلى أنها كانت بجانبي في حديقتها التي رآها فيها للمرة الأولى خردله بن سماعة، فانتهى به المطاف للانقلاب على والده وشقيقه. كانت مسْنِدة ظهرها المشدود كغصنِ زيتونٍ أزليٍ على شفير حائط أريكةٍ رخاميّة معزّزة أطرافها بزخرفةٍ من ذهبٍ، أهلت بتألقٍ وهي مضطجعة باسترخاءٍ، مشرقة بنظرةٍ مطلة من بؤبؤ عينين بلونِ ياقوتٍ أزرقٍ كعين سمك قرش، تعبق برائحةِ خُزامى وهو ينطق ببريقٍ ليلكي، كانت آلهة، فتنة، وطلعة رجاحة ودهاء، لا تبدي ضغينة، اكتفت بنبرة خزاميه:   

“استيقظ”

“أنتِ حقًا أميرة ياروبا زوجة خردله بن سماعة النبهاني تويني؟ أنت من أحدث بلبلة في المنطقة برمتها وبسببك لمعت سيوفٌ وسُنت خناجر، سُفكت دماء وهُشمت عظام وسادت فوضى شمولية؟” غزلت رواية في مخيلتي عن ماريانا…كنت حينها أكابد اكتئاب ما بعد الجنس، تغزو ذاكرتي علاقة امرأة أجنبية في قاموس الشهوات، علقتُ معها من خلال صديق مُضيف بشركة طيران الخليج، بني جسرًا بيني وبينها بشهامةٍ، وسرعان ما اشتعلت نيران سفينتنا فغرقت معها بحفلة مجونية امتدت لسنواتٍ، كانت شّهْدة البيت الغباري ماثلتني جنوني بسحره، وحاكت أفكاري، كانت البدايات سطحية، خاطفة حتى اندلع حريقٌ هائل بنفسيتي مخلفًا سخامًا بعد رحيلها بانتهاء عقدها، لم أسعف رغبتها المسعورة في جلبها على نفقتي وتأشيرتي، كدتُ أفقد صوابي لدى عبورها الأجواء الأخيرة، كانت معتدلة القامة، ارجوانية البشرة، آيرشية المواطن، تدعى آليني. سكبت عيناها الزرقاوين، أشنع لياليّ على أنغام طائري السري، بومة بيضاء رافقتني منذ عزوتُ بيت الجد الأكبر، لم أجد تفسيرًا لوجودها بين دفتي الدار وأنا، سوى لغز، لم أبالِ فيما بعد بحلهِ، خلفته للزمن ينجدني…”استيقظ” خلطت بين نجمتين.  

ذابت أسئلتي في نوبةِ ذعرٍ لجودي كصنمٍ جاثٍ وجهًا لوجهٍ مع قرينة الإمام الأحمر، إن كانت صورتها منقوشة على تلك الورقة الصفراء، أم هي خيال غثيان ألمّ بيّ؟ فذلك مساءٌ مسْتبد استدعاني ناحية ناصيّة رعب على أنقاض غبار كونيّ وهذه رائحة جنائزية تنتشر بالمنزل المسكون بماضٍ زمني تعمهُ الفوضى والاضطراب. هذه المرأة تستدعيني صورتها المخمليّة، ترمقني بعينيّ قرشٍ، تتضوَع بوقار من يحوز زمام الآلهة، أحدقُ بعينين واجفتين خشية مُكر الملِكات، وهنّ يحفرنّ قبر المحدقين بهنّ من خارج شرنقة يرقاناتٍ، ينسجنّ الموت حول من يتسكع بعيونهنّ الزرقاء، تجرأت وسرقت نظرة حانيّة، محتالاً وراء لمحة دهشة اعجابٍ بخلق جمالٍ ساخط، ربما هي حقيقة أخاطر فيها بالمواجهة معها قد تقودني إلى حتفي مثلما فعلت بتاريخٍ مجهول وغائرٍ في سحيق الزمن. أقرأ حروفًا وأتنفّس كلماتٍ، تغادرني المخاوف بنوباتٍ تخلو من الفزع وأكتفي بالتمازج، يشدني لأبعد من الرعب الذي تمثله هذه المرأة بحياة الكوْن، تماثلُ من حيث الجسد ضحى ربيع وربما تشاركها هيبة الصمت والمكوث عند منعطف التحكُم ولكنها لا تفتقد لبأس المرأة المسكونة بالدماء من دون أن تكون شريكة فيها، فبمجرّد قبول العرش والجلوس على أريكة المُلك، أتنازل عن صوتي، وأنصت بصمتٍ كله هيبة حتى لا تتلطّخ الأنامل الناعمة بالدماء الساخنة التي لا يتوقف نهرها…

“أي نحسٍ أوقعكَ في هذه المغارة؟”

سألتني بينما كنت بين يقظة وإغماء:

“أنا من سلالة الإمام، وهنا ورقة بيدي تنطق بذلك، جدي، وجدي الأكبر خلفا لي بوقتٍ انسل فيه الجُند لساحل البحرين وظعنوا بعد موجة الغبار خلفوا لي هذه الدار ومعها خزائن تفوح منها رائحة المُلك والدم والسلالة التي تقول إنّني نبهاني، تويني، ألا يشهد غزو العمالقة المنحدرين من عُمان العتيقة على ذلك يا سيدة الجبل الأزرق، ماريانا بنت مخزوم تويني، أم تريني مجرّد خيالٍ بمكب نفايات زمن غبار مضى؟”

لمعت عيناها وساحَت كشاطئِ بحرٍ بلا حدود، لبثتُ متخدرًا ودوي طنين حشرة غريبة تُبلْبل أفكاري، وتشوِّش صورة المرأة أمامي، رغم الهواء الضبابي الساخن، تفَصّد العرق من صفحة الورقة الصفراء وسال المخاط حتى لصق بعينيّ، بلّلت شفتي حتى أتنفّس، كانت رؤيا أبدية تراءت بصورة ماريانا، أظنّها كانت بين خياليّة وحقيقية فقد لامست طرف يديّ، فارْتجفت وسقطت الورقة الصفراء مبلّلةٌ بعرقٍ غباري، فكل ما يشيع من هذه الدار الحُصن غبارٌ بلونيه الرمادي والأبدي، وكل ما يتأتى من سماء متعبة بشتى المحافل الغيبية، تبرزه نوافذ مملكة ياروبا خواء، هل أنا مستيقظ أم ما فتأتُ خارج فقاعة الزمن؟ لا يعدو سوى غثيان هباء. ظلّلتُ أنْصتُ وبيدي الراجفة ورقة صفراء، ترتعشُ كطائرٍ بلا رأس.

“أنا هنا في خيالك بحديقة القصر بالجبل الأزرق، حين غادرت أنا قصر أبي مخزوم تويني بيوم نحسٍ، سقط فيه الجبل الأزرق، من يومها برَحت سحابة الوهج، تخليتُ عن أريكة المعرفة والفن والرقص والموسيقى والقراءة وفقدتُ من حياتي الذعر منذ أن وطأت قدماي قصر الجبل الأزرق، تجرّد من رتبة هذا الزمن، لقنهُ درسًا، ماذا جاء بك إلى هذه الورقة الخرساء؟ أنت تبحث عن سلالةٍ لم تنقرض لكنها تحوّلت إلى سلالات فسفورية، منتشرة بثنايا هذه المنطقة، أنت ترتجي وهْمًا وتُطارد خيالاً واقعيًا، احذر أن تسقط في فقاعته حتى لو كسبت ورقة يا نصيب المُلْك، فأنت مدانٌ بعقد موقع بالدم، مثلي أنا محكومٌ عليّ بالتجمُّد في الدم رغم يديّ الناعمتين اللتين لم تتلوثا بالدم ولكنّني في مستنقعه منذ قبِلت بالنفاذ لعرين خردله بن سماعة النبهاني، أما زلت راغبًا بالتورُّط في بحرِ الدم النبهاني؟ حتى لو فزتَ بجائزة خردله؟”

ابعدتُ وجهي عن الورقة، فطاردتني صورة امرأة تدعي إنها ماريانا أميرة مملكة ياروبا، تلوح حينًا آليني الإيرلندية، تتشابك أنسجة العنكبوت بأنزيمات الغبار ورائحة بيوض الحشرات، فيكتسحني غثيان يغطسني في لجةٍ هلامية، تتراكم ذبذبات وتتقاذف موجات من بين زوايا وأركان فرع بيت النبهاني، يا لهول المكان والعث والصورة والمرأتين اللتين تحوّلتا لذبذباتٍ بين فينة وأخرى، بين ماريانا بنت مخزوم وضحى ربيع، ثم قفزت آليني، وكأنما عقابٌ حلّ بيّ لم أفق بعد من الصورة الأولى ذات اللون القرمزي حتى اجتاحتني صورة تاليّة ذات لونٍ رمادي وما بين هذه وتلك وذاك، تجمّدت أوصالي بصمتٍ مهيب وراجَت رائحة زمن غير هذا الوقت النحس، بعيد، بعيد غار بيّ بجوفِ وقائع غزواتٍ وحروب واستعمار وانقلابات، يقتل الابن أبيه ويسفك الأخ دم أخيه، زمن مسْتبِد تلوتُ في ظلهِ ورقة من قبل أن أعي علاقتي بزمن خردله، ولم يغريني لنسيان الأهوال، شغفي بالعلاقة والانتماء بشجرةِ الدم، هناك وراء كهوف السجون المدجّجة بالوحوش آكلة لحوم المغضوب عليهم والضالين من شعب ياروبا الذين انتزعتهم غفلة الولاء، فتعذر عليهم صعود عتبة الركوع للإمام الأحمر، فتوّلت السياط والكلاب والفهود الضارية وأغلال الموت البطيء تلقينهم صلاة الجثو للإمام وكيل السماء بالأرض بعد فوات الأوان، لا وقت لدى الإمام للعفو والصفح أو التراجع، فثمة قانونٌ عرفيٌ، لا تسامح ولا صفح فيه، إلا بإذنٍ من الرب، وهناك وراء الثقب الأسود بالمجرّة العليا لا وسيط بين الرب والعفو سوى الإمام ذاته، هكذا تدار المجرة عندما، يتحوّر العفو في دولاب الإمام.

أفقتُ وشفتاي ناشفتان، بلّلتهما بلعابٍ سال بعد ساعات من خدري، فجأة وضَحت صورة امرأة أمامي، كانت ضحى ربيع وقد استقبلتني بدهشةٍ علت ملامحها، محت البهجة التي لاحت لوهلةٍ وهي تحدقُ نحوي وأنا أدلف باب الزنزانة الطوعية، دون أن أنتبه لثيابي المدجنة من الوحلٍ والغبار وفيما كانت عليه جبهتي وعرقي الذي نضد ببشرتي واكتست أطراف وجهي طبقة أملاح زمن غابر، لم أعِ بذلك حتى انهمرَت نبرة زوجتي وهي تفض ورائي حافية وقد أقفلت المكالمة بوجه متحدثٍ أبله معها، تتعقبها سكرات سخط مكبوت تجاهي، توجّهت نحوي باستغرابها المعهود كلما ولجتُ الدار وأنا بمثل هيئة شيطانية كالتي تتوّج ملامحي عندما ألوذ بمنزل الأجداد، تتقمصني شياطين دار عتيقة، مقفلة برمادٍ وغبار وبيوض حشرات، تعثرتُ وكدتُ أنزلق وأنا أخطو ملهوفًا نحو عريني وبيّ جنوح للنوم حتى من دون مسح الغبار عن وجهي وتجفيف العرق النضد، لم تأخذها رأفة بحالي، بل تملكها غضب شدّ صدغيها حين بادرتني كببغاء:

“ستلقى مصرعك ذات يومٍ في هوسك الخيالي بهذا البيت المسموم، لو تبيعه أو حتى تضرم به النار لربما انجلى من حياتنا النحس بسببه”

كانت نبرتها حزينة ويائِسة، انهال منها برميل حنق، نزعت عن ذهني آخر ذرة اعتقاد بالأسرة السعيدة، لقد شقيتُ بما يكفي لأحقّق للجميع ما يصبون إليه، تربية وعلاج، مأكل ومشرب، تعليم وتخريج وتزويج وخِلفه، كنت كقاطرةِ قطارٍ يحصدُ محطات مترامية الأطراف، يعبرُ مضائق جمة ويصعد مرتفعات وينحدر سفوحًا، يقطع وديانًا وغاباتٍ وعرة، صحاري نائية وجبالاً سامقة، لتأمين حياة هانئة لقومٍ يتمرغون بخيلاء، ماذا ينقص لنؤجّج أسرة سعيدة؟ دار بذهني الرد عليها ولكني فضلتُ الصمت وانا بطريق الخلود للنوم، كانت الساعة الحادية عشرة ليلاً لم أدرك مدى الوقت الذي أمضيتهُ هناك بقلعةِ الحُصن، فقد دلفتُ عند الخامسة مساءً، كيف أمضيت كل هذه الساعات في غبش التاريخ؟ وفي ماذا أحصيته؟

“أسأل نفسك عيسى مرة واحدة فقط، ماذا جنيّت من وراء هوسك ببيت النحس هذا غير شقاء ونكد بثروةٍ وهميّة من وراء خيال معتوه؟ لو كانت هنالك قيمة تُذكِر لهذه الخرابة المعفنة هل تظنّ تركتها لك الحكومة؟ أتظن أنها غافلة عنها؟ سافرتَ وصرفت الأموال التي كان من الممكن تفيدنا وتسعدنا وتُحسن حالتنا المهترئة، بعثرت حقوقنا على سفرات خرافيّة، لم تجنِ منها سوى خسارة فادحة، حتى متى تظنّ سنطيق هذه الحالة المزرية عيسى؟”

ظلت تمشي ورائي فيما تود الانقضاض عليَّ حتى ردهة الصالة بجانب غرفتي وهي بقميص مطبخ مشدود كما لو كان آخر قطعة لديها  ورائحة بهارات لاذعة تفوح منها، كان رأسي يعجُ بصورٍ ومتاهات متراميّة تحفُها ابتهالات تعج بها أنفاسها المتقطعة، وشعور مفرط بالبلبلة يعصرني ويحرق معدتي، يؤجّج فيّ رغبة محمومة بالقيئ أكبتُها، فيما سخونة جسدي اللاذعة تلفظ سعير حمى تكنس بدني ليفيض مستنقعٌ من العرق، تجرّعتُ كلماتها الساخِطة بمهانةٍ حابسًا أنفاسي المحْتقنة داخل برميلٍ من الغثيان، فتحتُ باب غرفتي وظنّنتُ أنها ستتركني لكنها ولجت معي الغرفة بسحنةِ امرأة سريّة، لا تربطني بها مضاجعة سنين فتبدو كبحرٍ نشف، وتفلجت ضفتاه، بدت غرفتي مرتبة ونظيفة وكل شيء تركتهُ مشتتًا عند خروجي رجع موضعه وأفضل بتنسيق منهجي، والفضل فيه للخادمة التي توّلت ذلك منذ سنوات ولم يتغيّر دأبها.

“ستنام ولم تسأل حتى ماذا حصل اليوم مع ابنك ياسر، وقد تورّط ثانية بمخدرات أو ديّن، فقد جاءوا لإلقاء القبض عليه قبل ساعات، لكنهُ فرّ وأخشى كما حالي معه دائمَا أن تحمل لي الساعات التالية خبرًا مروعًا عنه”

“نحن أسرة سعيدة ضحى، لا تخشي شيئًا!”

صفقت الباب وراءها بحدةٍ متعمدة بعدها طوت خطواتها بنقلاتٍ تنتحب صمتًا وشرعت موشّاة بزفراتٍ منقبضة مذيعة بتلك التنهدات الجُزافية إعلان احتجاج زلزالي مكتوم اعتدتُ عليه وقت عودتي من سهرةٍ متأخرة بالليل أو رجعة من البيت المسحور بحدِ تعبيرها، زحفتُ خارجًا بتؤدةٍ دون تعليقٍ إضافي، اكتفت ببراميل استنكارات ولم تمنح فرصة سؤالها إن كانت تسمح بتسلُق ظهرها الحليبي بشذرات نمشٍ مورّدة تثير غرائز الحجر، فقد برزت كزنبقةٍ لازوردية تناديني كما منذ زمن الطفولة، وأنا أحلم بأسرةٍ سعيدة، تمكث في أمسياتِ الخريف متوَّجة بأبناءٍ وأحفادٍ صاغهم خالقٌ أبدعهم بنشوةٍ لا تضاهى، أشبه بصائغِ ذهبٍ مبدع، وترجمتُ ذلك الحلم في منعطفٍ من الحبّ في جواهر توّليتُ ريّها مثل زنابق تتنفّس في حديقةٍ تتدفق منها خمائل خزاميّة شفافة ببريقٍ أزرق كلونِ عيون سمك قرش ببحرِ أزرق، تلك بهجةٌ نائيةٌ رسمت خطوطها في ليالٍ فقد كلانا الانتباه، ولجَ كل منا بالآخر، كانت كل زفرة تنبت غصنًا في الشجرة، تكالبت نجوم السماء، وصعدنا مرتفعاتٍ تفوق الجبل الأزرق وما حوله، كانت ضحى نسمة من رياح الخماسين الربيعيّة، تهب بغبار الطلع وبحرارةِ درجة الأربعين، نتلوّى كثعابين محشورةٍ بنفق الشبق، تتساقط منا عناقيد الحبّ، شهوةٌ مسعورةٌ كحمى أرجوانية، تسحقنا حتى نلفظ أنفاسنا ثم تخطفُنا في ملكوتِ نسيانٍ أبدي حتى تشرق وتغرب شموس وتضيئ وتنطفئ أقمار، وهكذا نبتّت شجرة سعيدة، بجواهرٍ من صنع خالق ظنّ أنه سعيد… وضعتُ رأسي المثقوب بشيخوخةٍ مبكِّرة على وسادة عليها ملصق صباح الخير، طالعتني صورة ماريانا بنت مخزوم تويني:   

“لا تصدق أنك عديم النفع، مكتوبٌ عليك رؤيتي كلما فكرت بخردله!”

حياة عابِرة أعمق من مجرّد سنوات تمضيها بمعيّة حشود بشرية نضَبت من حبٍّ، يطاردونك بأهوائِهم المُسمَّمة، لا يعنون لك بيومك الطويل المُضجر سوى حُمى سليطة مستدامة، عمق الحياة مرارًا ما يختبئ في امرأة تُصادفها بطريقٍ عشوائيٍ، تسرقك من نظرة خاطفة منها بومضةٍ عابرة، تنتشلك من جزيرة موبوءة حبسْتَ ذاتك فيها كتلك التي عاقرْت الحياة معها دون شغفٍ يُذكر، وبوميضٍ زموع يخطف بؤبؤ عينيك، لمحةٌ من نظرةٍ زكيّة برائحةِ زمنٍ تليد، تسْحرك، تغرقك، تدمرك، أو تنقذك من بركانٍ أشرس وأبطش من فكِ قرشٍ مسعور، كانت تلك ومضة حثيثة وكأنها ساعة زمنٍ من مشوار رحلتك البدائيّة، مع ضحى ربيع قبل أن تصادفك ماريانا بنت مخزوم تويني، وقد أفقدتك هيبتك وجلَدتكَ بزنزانةِ ماضٍ أغبر، فتركتك مجهول الهوية، تعيث في ورقة صفراء منضّدة بعرق التاريخ، تلك الهوية أحدثت لك فجوة بحياتك فيما كنت تتقصى مجدًا بينما أنت مجزأ شظايا بين صقيع ضحى ربيع وسعير ماريانا مخزوم، لا ينفعك درعٌ خرافيٌ تحتمي فيه من حُمى سديمية تدفعها ثمنًا باهضًا لمجدٍ هل أنت بالطريق نحوه؟!!

“كيف أتسلّل لشرفةِ زمن المجد؟ لابد من فنار ضوضاء يقودني لمرفأ ماريانا بنت مخزوم تويني” دمدمتُ وأنا بالطريق لحجزِ تذكرتي الرابعة أو الخامسة، سيان، فقد نسيتُ، الوقت يفقدني صوابي “أنت تدفعينني للمجون، كلما تحدَثت عنكِ خرائط الماضي” صحتُ دون وعيٍ بصوتٍ مبحوح، مسموع، لفت أنظار من حولي، كان نهاية يوم عمل اكتظّت الشوارع فيه بنحسٍ سلب تركيزي، أغرقني في بحرٍ من زفرات حادة دونها تلك التنهدات الهاربة من أنفاسي وهي تلج بعاصفة الإبحار نحو جبال ووديان عُمان، لعل هناك ما تبقى من الجبل الأزرق “قُضي الأمر حين ألقاكِ ماريانا، لم أعد أطيق انتظارًا، لم أعد أخشى خردله حتى لو صادفتهُ حيًا يرزق بعد زمن الغبار وعقود الخرافات، سحقًا للخوف، ممّ أخاف، وأنا بنهاية العمر؟ ارتويت من الإخفاقات بسبب الخوف وحان زمن إطلاق سطوة الجنون”

قرّرتُ متجرعًا بلسم حبّ ناري حجز تذكرة إلى مسقط وأن أسكن اللهفة واتخذ من الشهوة رفيقًا، شهوة ولوج للنار، لحسابٍ ختاميٍّ في حياتي، ضباب زمن، أعدادُ جنائز رافقتُها مستيقظًا، كائناتٌ احتالت عليَّ، أكاذيب، ترهات، غمائم، جزّت غاباتٍ زرقاء، حياتي كانت مدجّجة بمطباتٍ، كلها، جميعها، برمتها، حان وقت التجرُّد من سخامها، كانت طُرقًا مسدودة، مقفرة، طوال سنين، حان نزعها، تحطيمُ الأقفال، فتحُ الشرفات، إزالة الحظائر المعفّنة من مضائق العبور “ماذا يضير الغريق البلّل؟” في تلك الأمسية انزلقت حقيبة سفري من فوق دولاب الخوف طهرتُها قبل أن أملأها بملابسي وسلالة أوراقي. قبل أن أودع ملكتي ضحى ربيع، مدركًا وحشية موقعة القتال المُنتَظرة، وضعتُ نظارة سوداء على عينيّ ونسخت صورة خردله بن سماعة:

“الخوف باحةُ فشل، كنت جبانًا، هذا أحد أسباب فشلي، والفشل يزرع الخوف، ومدى حياتي كنت مذعورًا، نوبات الذعر صديقاتي” نزعت نظارتي وتدلّت من يدي وأردفتُ بينما كانت ترتدي فستانها البحري الطويل “أهدرت حياتي وأنا أفكر بالموت بل صرفتُ وقتي بعيش حياة ترهة”

“والآن ماذا تغيّر سوى أنكَ صغت حقيبتك من أوهامٍ جديدة وستعود بعدها مفلسًا، لا تلمني إن لم تستيقظ، الأحلام تظلّ مستحيلة إذ لم تصحُ من النوم” أهدتني نظرة شوكيّة، كانت مُتلهِفة على الخروج وبيدها هاتفها وعلى طرفه الآخر صوت يصوح لم تعره انتباهًا، توقفت عجلاتها الهلامية عن السير وأردفت بنبرةٍ حربية شحذت معها أسلحة العينين واليدين والأنفاس وقذائف من الوزن الثقيل الموقوتة لاحت في بشرتها التي تورّدت فجأة:

“الحياة قصيرة، قصيرة” قالتها بمرارة، واستأنفت، لا تعد إلا ومعك جوابها الشافي”

“جواب من؟!! “سألتُها دون فطنة، بنبرةٍ غريزية، وكأنما سؤالي هو من نزع آدم من الجنة، تورّمت بشرتها، ونكبت عينيها، فاحت رائحة قيامة توشك أن تبعث من حولها، جرجر هيكله السكراب وراءها، غير أن نعيبها سال مثل رنين جرس أفعوان، صريخ داخلي لا يُسمع تدفق من نبعِ بحرها الدامي، ولأنه طمر أذنيه بسدادةٍ غير مرئيّة، إلا أن تبعات زلزلة حنجرتها من الداخل اخترقته كرمحٍ وهمي: “ورقة طلاقي منها، من ماريانا بنت مخزوم تويني، أليست هي من اغتصبتك مني؟ لا تمرّ ليلة لا تحلم، تفضل…تفضل”

لم تترك له خيارًا ليجر قدميه أو يلتقط نفسه، فتحت اعصارها من خلال تسجيل هاتفها النقال، وأطلقت السبيل لصوته الفضائي بعَج من أحشائهِ وهو هاجع يصفق ويلطم بكلمات بركانية، مفادها “ماريانا…ماريانا…خردله خردله…ماريانا مخزوم تويني، نجيني، ارغميني على…عديني ألقاك، ماريانا…ورقتك الصفراء تطويني…أب…”

ساح أحمر الشفاه، غطى الأفق، تعذر عليه تحسّس الغيوم، سحابات توغّلت في شقوق سمائه، تصدّعت جدران مدينة خيالية، تعثّرت عجلات لسانه، كاد يصرخ من حرقة المعدة، وقبل أن تنطفئ شعلة النار بذيله، أوقدتها عاصفة غبارية أزاحت قشريات بشرته المطوية بظلالِ الشكّ، الشك في نفسه وفي عقله، في أفكاره التي فقدت صمامات الأمان، انتصب كصارية خشبية على زورق غطس في اللجة:

“لم أكن لأستلقي بجنبكِ لو كنت أحدس بنيتك، أنتِ في هذه الساعة غريبةٌ عني، لستِ ضحى ربيع، لست سلة الجواهر السبع، لست إلا شبحًا لامرأة كنت أعرفها قبل زمن وباتت غبارًا، هذا كابوس، تنهّد ودنا منها، اقترحت عيناه أن يهرب، يذوب انزيمات في الجو، لكنها اقترحت شيئًا نقيضًا حين لمسَت راية زوبعة عارية مرفوعة على صارية انتقام، دنت من ارجوحته التي ارتكز عليها وخيّمت سُحبٌ وبروقٌ فوق سمائه، اهتز الهاتف بيدها وسقط على الأرض، نكست رأسها نحوه دون أن تشي عن رغبة بالتقاطه، انحنى والتقطه وقد تهشم جزءٌ من واجهته، مدّ يده ودعسه في يدها الرطبة: “كنت قبل الحلم أُضاجعك وأُطفئ لهيبك، تعانقيني حتى أنام، كيف خطر ببالك تسجيلي وأنت تعلمين أنّه كابوس ضمهُ صدري بعد كل عودة من قلعة الأشباح؟ غريبة مشاعرك” تساءل وهو يضمّ أصابعه بأصابعِها اللزِجة وقد سال الغبار من نافذة مواجّهة لهما بقرب رواق الصالة المطلة على الفناء، وقد أيقظ ضوء الشمس الخافت سكينته وانتفض على إثرها حسهُ تجاه الأشياء الجامدة ومنها المرأة التي اخترعت المواجّهة منذ وهلة، وتعرّت بعدها من أسلحتها، لم يرضخ، صفع الوجه الزجاجي وهو ساخن، واستأنف محاكمته بعد أن حطم السياج “لا يسرح معكِ الظنّ في علاقة مع ملكة أسطورية من رميم الآثار، في طفولتي حلمت بملكاتٍ كانت تروي والدتي فنونهن، أما الآن فانا بطبيعة حرفتي الكتابية، أطارد الملكات التاريخيات، عاطفتي لا تتعدى قرونًا للوراء، وصلتي مع ماريانا بنت مخزوم تعود لبيت الجد الأكبر الذي ترفضين مرّة اقتحامه معي رغم الإغواء الذي يمثله، كم ودّدتُ مطارحتكِ بين غُرفه وفي نسيج غباره، كانت لهفتي تجاهك بينما كنت أحتسي قهوتي الداكنة دون حليب وسكبتها على ثوبي وأنا أتخيّلك عارية في خلية عنكبوت لهذا كنت أنام بعد مضاجعتك وأهلوسُ باسم ماريانا ربما كنتُ قصدتك أنت هناك مكانها، قصدتك عارية بين يدي في لهوٍ أسطوري لا يتسنى للكثيرين بلوغه، سكتُ وحكّكتُ ذقني وعصرتُ جفنيّ وأسترسلتُ منزلقًا بهدوء: لكنك سفينة لم تُخلق للمياه، أنتِ في صحراء، قهقه وأبطأ من نغمته الحثيثة، زائر لبيت شبحي يجني أفضل وأروع حلم بالتاريخ، لهذا أنا موتور ومجبول بالجنون الأثري، هناك ملايين بالعالم مثلي ولست سوى واحدٌ منهم لكنى زُرِعتُ في تربةٍ غير مكاني على الأرض، قهقه مسترجعًا حثيث نبرةٍ نهائية، أنا في بلدٍ ضاع من التاريخ”

“متى ستسافر؟ سؤال استفزها وزفرته من معدتها وليس بمقدورها الوقوف، شعرت بخذلان كيانها، تؤوب بالسلامة وصن نفسك، أنا، نحن بانتظارك”

“ألا يهمك معرفة علاقتي بماريانا بنت مخزوم؟” كان مبتسمًا وذابت سُحب السُخط عن وجههِ، بذات الوقت فرَغت خزينتها من المشاعر، لم يعد بوسعها التفكير في أسئلة مع ترهُّل جفنيها من ضوئهما الساطع، ولم تناور بشرتها كما في البدء، أنصتّت لتدفق الدم في انقباض ودجها بعد انتفاخ مرير كاد يذبحها عندما كاد ينفجر، تذكّرت بغتة وهو يعالج ياقة ثوبه أنها كانت عادة ما تُساعدهُ بتحضير حقائب سفره: “دعني أُحضّر حقيبتك” ضحك وقال بنبرةٍ مازحة “لتطلعي على محتوياتها” تظاهر بنظرة العاشق “أحسُ نحوك بغيرة من ذاتك” ثم غيّر نبرته “ما زلنا بعيدين عن فهم الحياة بيننا، رغم النجوم والكواكب التي أحرزناها، سبع مجرّات كل مجرّة عالمٍ مفتقرٍ لقاموس لغات العالم كي نفهم كلاً منهم، إذا كنا لم نفهم أنفسنا نحن العالمين الاثنين فكيف بنا نفهم سبع مجرّات متتاليات، تتحرك في مدار كونيّ غامض لا يدركه حتى خالقه كما يبدو من غموض هذا الكون” قصد أبنائه وهو يدغدغها بالمجاز.

“هؤلاء أولادكْ وأنت من راهن فهمهم، قهقهت بنبرةِ توبيخ، لا تأتيني بعد ضمور الكوْن وعجز خيول السباق في كسبِ نزوة، نزواتهم، وتطالب بفهمهم، هههه، أنت من تولّى تدريبهم، دعني أرتب حقيبتك ولن أتجسس عليها، أنت مكشوف لديّ منذ عاقرت عشرين دابة بينهنّ صديقات حميمات ليّ!”   

“سنأتي على ذكر ذلك إذا رغبتي بمحاكمة عادلة لدى عودتي، رغم اعترافي بسجلي الرومانسي ولم تكن المبادأة كلها من جانبي”

“سجلك الإجرامي؟ ههه، مع العلم أنت من كنت ترمي لهنّ الطُعم” حرّفت الحديث بإقصاء ملامح وجهها المُستبد بألوان الأعاصير المكبوتة، تكلفت عدوى نعاس، وطهرَت عينيها بلونِ خسوف قمر الخريف “حدثني عن ماريانا، أهي خيال أم شمس كُسِفت في زمنٍ ما؟” أزالت نظرة ازدراء من ذكر الاسم وأردفت، كنت تلهث وراءها، حتى أني أحسدها ولو كانت مجرّد خيال، فقد اكتسبت حبك، حدثني عنها وأعدك بأني لن أتبرم”

رأى في تسريحتها المثيرة طاغية، تخيّلها تُشيد حفرة وأضاءتها بشمعة ودعته يسقط في قعرها، انتبهت لنظرته وبلّلت شفتيها.

“أحدثكِ عن تاريخ، عن ورقة صفراء مطمورة بخزنةٍ معتقة، هذه الورقة نامت طويلاً نامت حتى أيقظها ثعبان كاد يمتصني، ضحى، أنا لا أعرف إلا ما ورد في ورقة رهينة ماضٍ ولّى، من الغريب أن ماريانا أتت بعد انسحاب عمالقة مملكة ياروبا من البحرين، كيف نام اسمها في الورقة؟ اقترب منها وأمسك بيدها، كانت باردة ولزِجة، أغوته لمستها الخاطفة: لا تكوني كدجاجة، شاركيني، أقلها اتركيني اكتشف ما يحتويه الإناء”

“ماذا سيحتوي غير الغبار والحشرات؟” انتبهت وبعجلةٍ وبوقار خطفت يدها ودنت منهُ حتى انتابتهُ رائحة عطرها المُنفرة للذهن… اعذرني لا أفهم كيف جاء ذكرها بعد الانسحاب العماني؟”

“ضحى وقتها كان المنزل تحت الاحتلال، ثم تولاهُ جدي الأكبر سلطان النبهاني، الذي أرثه من بعده لجدي عرار بن سالم النبهاني، إلى جد جدي، وخوفي ألا أورثه من بعدي لابني أو لحفيدي…لا بأس، مرجح أن تكون ماريانا أختي وحينها ستبطل الغيرة، وفاجأته بنوبة ضحك هستيري وقالت معتذرة: “ستحتاج إلى الله معك ليفسر ما جرى في هذا المنزل، هل يمكن أن تأخذني له ذات مرّة، عندما تعود طبعًا قد يحالفك الحظ وتتوصل لبعض الاستجابات الطرية، أشعر برنين في أذنيّ، هل الورقة معك؟ هل يمكن الاطلاع عليها؟”

أنقذتهُ ضوضاء ابنتهما فجر، انزلقت مثل حبة رمان بين فكي حوت، لم يتوقعا هبوب رياحها، وربما أنقذته ولكن سرعان ما انفجر بالونها: “بابا حقيبتك مطوية هل أنت مسافر؟”

“كنا في حديث خاص، أجلي سؤالك فيما بعد” قالت ضحى ويبدو أنها أفسدت ما كان يدور ببالِها قبل لحظة من مغادرتها، كانت الابنة ترتدي سروال نوم وقميص وأمسكت بيدها قدح قهوة يقطر منه رذاذ الحليب وهي تتلقى صفعة الكلمات.

“هذا البيت تسكنه الأشباح أكثر من قلعتك الخرافية، غيّرتُ اسمي ولم ينفع، حبستُ نفسي ولم يسأل أحد، وقبل أن تغادر رشفتْ من قدحها، قهقهت، صحيح بيت الأشباح يقتفي آثارنا؟ بابا سألتك، لأن هذا ما تُبلغنا به ماما كل يوم”

قالت فجر عبارتها وتبخرت عن أنظار الكون، غدت الساحة للخصمين اللدودين، متصالحين مؤقتًا، ومذهولين من بعضهما، تقلبات الطقس بينهما أشبه بطقس خريف جزيرة الابتسامة العابسة، طقسها مجهول الهوية، طقس لقيط، يتشكل بحسب مزاج مرآة الكون التي تعكس تداعياتها مزاجهما…

“في المرّة التالية لو وُفقت لشيء في الصورة البارزة، خذني معك، سنتان لم نغادر وحدنا، لم نشمّ هواءً غير هواء طحالب البحر، أنت تتخبّط وأنا مزاجي مشوّش، قلقي من إفلاسٍ منتظر هذا يروّعني، أفكارك حول الكنز مُرعِبة ومع ذلك ستسافر وسأعتني بالمنزل والأبناء”

“الأبناء بلغوا الفطام وخلّفوا، بمن تعتنين سوى فجر الخرافية وهي تعيش هواجس بالغة التعقيد؟ لكنها أيضًا تعتني بنفسها خيرٌ مني ومنك، ما زلنا على قيد الحياة ضحى لا تتسرعي بالحكم على أشياء لم تنضج، قهقهت وغمغمت: سبق واحترقت…صمتت وتنهّدت وهي تهم بالإفراج عني، ثم أردفت بنبرةٍ تهكمية…

“نستطيع أن نتخذ قرارنا ببدء الحرب فيما بيننا وحتى مع الكوْن، لكن لا نملك قرار وقفها، هذا ما نفعله كلنا في هذا المنزل، لا تُفسد الأشياء ولا تعرّض نفسك للإعدام”

“الانتظار الطويل لا يقفلُ باب الحظ!” رميتُ سهمي الأخير بظهرها.

فصل من رواية “خريف العرش”

كيف تصوغ عائلة سعيدة؟ عندما يضحى أفراد أسرتك جميعهم تقريبًا سعداء مبتهجين، هل تتصوّر نفسك أن تكون أنت تعيسٌ بائسٌ؟ تصوَّرت ذلك أو تخيّلته؟ إلا إذا كنتَ قد أنجزت لهم كلّ مرادهم وأفنيّت حياتك كلّها من أجلهم دون لفتَة منك لمستقبلك الذي يتطلَّب تفرغًا، ويقتضي مناخًا أن تُخلق فيه أنت أيضًا سعيد، أنا سعيدٌ ومن بعدي الطوفان! هكذا ينحدر غوغاء مرفأ الغرقى في بحر السُلالة، بلهفة يفكر فيها غالبية رجال العصر الذهبي كما لو كانوا يعانون من دوار البحر، عرفتُ آباء وأزواج وأرباب عائلات غنيّة وفقيرة، مسلِمة ومسيحيّة، عربية وأجنبية، حققوا مآربهم دون أن يخلّوا بقانون السعادة، عكس الفقير لله الذي كابد من هيجان طوفان شهوة، أفنى عمرهُ وأهلك حياته كمحرك سيارة سكراب تقطع طريقًا ملتويًا في سفرةٍ تبدو فيها رحلة المريخ أسْهل منها، حتى هذه السفْرة الخرافيّة عبر الكرة الإنسانيّة، التي استغرقت نصف قرن من زمنٍ مشوبٍ بغبار حياة ضارية، كغابة أمازونيّة، بتضاريسٍ مُبهمة وعاصفة أبديّة، مع سفينةٍ مثقوبةٍ تكافح كإنسان بدائي لعبور محيط تعلو أمواجه كالجبال، لم تُرَجح رضا أسرتي عني، أو تُرسخ قناعة حتى ولو صوَّريّة، فلا يمرُّ يومٌ دون أن يلحقني اللوم على التقصير. أرجوك بابا نريد أن نسافر مثل غيرنا من الناس، غيّر أثاث الصالة، لقد عفَن وأكل عليه الدهر وشرِب وتجشأ كذلك، كل صديقاتي معهن سيارات جديدة، كل بضع سنوات يغيّرن الموديلات وأنا وحدي أرزح تحت هذه السكراب! لا تنسى موسم الأعياد مع شهر رمضان يطرقان الأبواب، حتى متى سنظلّ بدون مرآب للسيارات؟ هل أنا مسئولة عن سبعة أولاد؟ قانون الجاذبيّة يقول، تمنَّ واعمل جهدك، وسوف تحقّق غايتك. حقق الأولاد والزوجة غايتهم دون استعانة بقانون الجاذبيّة بينما رافقتني رحلة الجاذبيّة منذ مولدي حتى طرَقتْ الكهولة حديقتي الخريفيّة وتساقطت أوراقي صفراء من شجرة مثمرة، ما زلتُ أعاني حرقة المعدة وحموضة معكّرة لصفو أيامي، ومستجدات العائلة تكافح مع الخريف الذي حل مبكرًا للقضاء على ما تبقى من أوراقي الخضراء، ثمة تسوية أفكر فيها بعقدِ صفقة وإن كانت خاسرة ولها آثارها المُدمِّرة ولكن لابد من خبطِها ببرميل من حمض الستريك لتنقية جروحي بملح الليمون، وحفظ كيمياء حياتي في حيوية عضوية عن الانتهاك، فلا مفرّ من دخول مزوّغ في تسوية تلطخ حياتي باللون الرمادي، لتُعيد ترميم بناء عمر مستند على حائط فضي من بقايا لون شمس طباشيرية، فيما أنحو بطريق مشوب بأشجار يابسة محنطة من أوراقها الخضراء، إلى عش الدبور خردله بن سماعة، غير مبالٍ بلسعه، مكتفيًا بتنفُّسٍ من قشرتي،  فثمة فواتير ضمن كشف حساب سامق حان وقت تسديدها وبدايتها تحرير ذاتي من رق وعبودية الأسرة المُهيمنة بخناقي كشرنقةٍ من أزهار عباد الشمس التي غثت محيط حديقتي بغابةٍ وحشية ،اخْتلست أنفاسي ولو أن ذلك تطلب مجازفة، فالذي لا يفهم ألغازًا محيرةٍ عن أبنائي وزوجتي لن يفكّ أحجيّة الرحلة المُسهَبة التي بدأت منذ المخلوق الأول وحتى الأخير. لم أملك جرأة على ركوب موجة دهر معاكِسة أدفن فيها أولادي وزوجتي في ركام نسيانٍ جنائزي وعزفِ سمفونيتي الذاتية. انساب الزمن كخرير مياه نبعٍ أبدي من بين أيامي كما ينساب رواء السماء من بين ضلوعي، وإذ بالزمن يطوي من بين ما يُشمّر عنه أحلامي التي غمرَها ضباب حياة استوائية، ملفّقة بإنجابٍ متواتر، وكأننا أنا وضحى ربيع بمسابقة سباحة في بحر الوقت الميّت، حتى غمرتني سحابة تشبه ظلّ القيامة، تزخُ فوقي أمطارًا من ديون مدَلهمة وصواعق من قروض مؤجلة وبروق من سلائف أفقدتني توقير أعز أصدقائي واحترام زملائي بالعمل، غفلتُ عن نفسي حتى عميتُ عن رؤية ضوء مصابيح الشوارع، فتراءت بأشعتها الشاحِبة كسحاباتِ فواتير بانتظار التسديد، تتلوها غمائم من إنذارات محاكم ونيابات ولا تخلو من مقبلات تحذيرات بقطع الكهرباء والهاتف وحتى الأوكسجين، وإعادتي لعصرٍ حجري، أحيا فيه بغاباتٍ تحدوها وحوشٌ ضارية وكهوف نتنة، أنذرتني كوابيسي الليليّة بالعودة لعالمٍ بلا أحياء، فقط غيوم وأمواج ورياحٌ تصْفُر في رأسي، وأولاد كالجراد بموسم الغبار ينبعون مثل رمل البحر “يا إله الطبيعة الصامتة وضياء القيامة، من أين ينبع شلال الأبناء؟” لم ينْتشل تفكيري الأغبش سوى قرص زناكس الإلهي، تطبق إثره جبال الهملايا عليَّ، فلا أتذكّر من أولادي سوى السهم الأول الذي أصابني بفرحةٍ زائغة، سرعان ما تلاه وابلٌ من السهام النافذة، فأحالت المعجزة رصاصة هوائية، تصيبُ ولا تقتل، وفي حالتي المُهلهلة، كانت الإصابة أشدُّ فتكًا من القتل. اختبرتُ ذلك الامتحان المهين للمجد بأول ليلة ينام فيها بكر أولادي بلا مرضعة، فقد أصاب صدر زوجتي جدب امتدّ مواسمًا سحيقة، تردّدت أصداء احتجاج أول غيث في النسل تعلقُ بذاكرتي مع حمد باكورة حصاد الحبّ وليته ترك أثره في تركيبته، عندما يسومني اليوم باحتجاجاتٍ وخيمة على فقري وخواء فهمي لعالم ٍخذلني بسبب قلة حنكتي “لا تتهمني يا ابني بالتقصير، كنتُ أول إنسان بدائي تخذله الغابات وهو يركض وراء كسرة خبز، وقرص دواء وقطرة حليب تسدّ الأفواه”       

“لماذا أفقرتنا يا أبي؟ كان بإمكانك أن تصبح وزيرًا بذكائك الذي تتباهى به معنا”

كان حمد شرارة أول زخم حبّ، هبط من جنةِ عدن كما أحسّست، كان الأكبر والأطول والأصعب، حملناه معًا كحلم ليلة شتاء عاصفة الرياح، ضخم كجبل دخان، رأسه جلّل، ولونهُ أبيض نقيض أخوته الأقل بياضًا، رأسه محشو بخيال رضيع، ولا شيء يملأهُ سوى رحلات بحرية، هوسه الصيد، موظف حكومي متقاعس لا يترك فرضًا يفوتهُ لصلاة حتى بالغبش، ولشدّة تمسكهِ بالدين فرض نظامًا ظلاميًا بالورع في المنزل على شقيقاته، انتحل صفة التقي رغم همجية فطرية كادت تجعله مغارة سلفية، لكنهنّ فرطنّ من هيمنتهِ بسبب قوة شخصية آخر عنقود في شرفة شجرة  الجاهليّة الحديثة بزمن الصنميّة الجديد، فجر التي وُلِدت متمرِّدة وهي رضيعه، وشاركتها انتفاضة التمرُّد فاطمة كبرى الشجرة، هادئة، واجِمة، لا تسمع كلمة منها ولكن إن ثارت، اهتزّ الكوْن، أنا ذاتي، فقدتُ السيطرة عليه في مواقف عدة وتوَّلت الصغرى فجر التصدّي له. ليس تقاعسٌ مني وأنا أجْرجر نفسي كقاربٍ بدون شراع، كان همي سدّ تلك البطون وإغلاق الأفواه واخلاء المنزل من الديون ووقف هدير سيول الإسراف الذي كان من وجهة نظر الأطراف الأخرى بالأسرة تقتيرٌ بلغ صورة البُخل، بينما جيوبي تمزّقت وفرطت آخر الأوراق الملكيّة منها دون أن يحفل أحدهم ويتبرّع بالسؤال، ماذا بعد؟ كان ذلك بعكس الرياح وإحداث فجيعة بالقارب، دون أن يعيد ترميم الذات وانعاشها وقد أوشكت على حافة الانتحار الخيالي، يرافقني إلى فراش التخدير برفقتي هلوسة تحمل جثماني وأنا حيٌ أتجرّع فضلات نوم متقطع يشبه حقن الأقساط المتكدّسِة من دون أن تترك ثقبًا في فضاء النوم يقتحمه الأوكسجين. كنتُ كبيتٍ بدون جدران، أنام في العراء ومن حولي تعبر تماثيل  ومشاة فضوليون، بتُ مجذومًا بعدوى الإفلاس، كحال المتساقطين من لائحة المُسْندين، مكشوفًا، عاريًا كحسابي البنكي الذي افتضح في أنحاء العالم وكأنني مالك الملايين وفجأة غرق قاربي، كنت أسمع طنين أذنيّ وأظنّ أنها طبول حرب أهليّة مع ذاتي، تُعلن حشودها قرب حدودي الجزافيّة التي تعد محميّة حتى من هجمات حشرات نافعة كالنحل، تلك قيامتي التي رأيتُ في بدايتها الحبّ بكأسٍ من شراب جنة خزامية، وتخيّلتُ الأبناء زنابق زكيّة لها لون الطهارة معلقة بسماء حديقتي، حتى اتحفتني بليالي عشق كرزية ملتهبة، لم أحكم سيطرتي عليها، بأفواهٍ لم أتوقّعها  قبل اندلاع حرائق الغرام التي أشعلناها أنا وضحى ربيع، إلى أن هناك مطافئ لم نستدعها في غمرةِ نيران الحبّ، فانزلق شغفٌ تائهٌ وحال دون منع تسرُّب وقود الحبّ وأخفقت كل محاولات الإنقاذ المتأخِّرة للحيلولة دون سقوط قذائف الهاون على أهدافها، فجاءت إصاباتٌ مباشرة. اسقطت سبعة أرواح حية تتلهف بفضاضةِ على الرضاعة لحليب الطفولة. لم نسترح أو نتراخى، كانت مائدة الشهوة عامِرة طوال النهار والليل بشتى ألوان الفاكهة المحرمة…هكذا بدت، وبلغت ذروتها حين تساقطت بذروةِ نضوجها حتى بلغ تمثيلها دور عاهرة بروحٍ شيطانيّة، هاودتها لتتساوى حركاتنا ونحن نقطفُ ثمار الجنة، هكذا ظنّناها، لكن سعيرها كان الجحيم!   

هبت نسائم بأرواحٍ بهيجة بعد حمد البِكر ورياح فاطمة الشقيقة الكبرى، تزفُّها طبول غبطة الأنثى الأولى بسلالة عيسى النبهاني وربَة جماله ضحى ربيع، هَلَّ قمر فاطمة تبجلهُ قافلة الأزهار ومعها وسام الجمال وهي رضيعة تيقّنا لها بقامةٍ تماثل هيبة شقيقها حمد وبجسامة بنيّة لا تمحو عنها رشاقة جسد ندي الصباح ولون بشرة بيضاوي انتزعتهُ من طبيعة بدائيّة، ومن الأم حصدت شعرًا طويلاً مع لون عينين سوداوين كمعظم أغصان شجرة الأسرة، وحمدتُ السماء أنها لم تقتبس عني شيئًا لكن ذلك لم يُلغي شرفة نفس النبهاني من ضفاف الأب، تكبدتُ معضلةٍ في الرأس رغم ما بينته كل الفحوصات التي أثبتت سلامتها، لكن أزمتها كانت في صداعٍ مُزمن يجعلها تفقد السيطرة على نفسها وتُجرَّد من الأوكسجين فتُهشم بالصراخ والعصبية كل ما حولها، ويبلغ بها الألم حدة، تتمنى الموت… خفّ ذلك وإن لم يزل بعد زواجها وانجابها فتاتين وصبي، روان ومريم ومحمد، وزادها ذلك علاقة حميمة بأسرتِها فهي لا تكاد لا تغادر حديقتنا رغم استغلالها بمنزل الزوجية… زوجها ضابط بالداخلية ومن طبعهِ التباهي برتبتهِ وعلى قدرٍ من وسامة، ما عزّز لديها تباهيها في زواجها رغم بعض المشادات المُملّحة والمتبّلة الجديرة في رفد الحياة بسرْمديّة، تعمل موظفة في هيئة حكومية بالجوازات والجنسية ومن عوائدِها غزلَت لها علاقات قيّمة بكثيرٍ من ذوي المراكز والنفوذ وفقراء أيضًا، واكتسَبت ذخيرة عبر تلك الوشائِج، وقطعت شوطًا في نسج مصالح وإن كانت ضيقة، فقد أبْلت، وهي نموذج للزوجة والموظفة المثاليّة وجاسَت نجاحات صغيرة بحدود طموحاتها التي لم تستغل صلاحيتها كما فعل الأقل منها مسئولية، وإن لم تخلُ من إخفاقاتٍ عابِرة مبعثُها صداع الشقيقة الأبدي…ترافقت ولادتها مع هبوط أسهمي في بورصة الوظيفة التي شغلتها بالإعلام والصحافة عندما سادت موجة قانون أمن الدولة، فقدَت الصحافة وقارها الصوّري، فطوّيتُ قانطّا أوراقي البنفسجية ذات البريق التحرّري وعزيّتُ نفسي بتقديم برامج إذاعية لأنعش جيبي وأسدّ أفواهًا لم تكتمل، فبعد حمد وفاطمة، هدرَت ماكينة التفريخ التي اقتنيتها ولم أتوقّع أن تحكم قبضتها عليّ بأفواهٍ أخرى وخسرتُ معركتي مع تحديد النسل دون الحيلولة في الحدِ من التفريخ رغم استخدام أسلحة فتاكة كأقراصِ منع التفريخ والأغشيّة الواقية، فجَنَحت سفينتي مثقوبة من فرطِ الصدمة، عند مرفأ مريم الأخت الوسطى…هبطت بمظلّةٍ في منطقةٍ وعرة، عانيتُ خلالها من تدني مُرتبي وتضاعف مصاريفي مع وقف مقالاتي وكانت مصدر غوث. منذ ولادتها تنبأ لها كل من رآها بساعتها الأولى بأنها  قصيرة القامة نسبيًا وأقل شقيقاتها جاذبيّة مما زعزع منذ طفولتها في نفسها الثقة، فكانت تقوم بطلاءِ وجهها بشتى أدوات الماكياج وأقصاها، وقد جعلها ذلك في بداية الأمر مثار سخرية وتندُّر عندما كانت بسنّ الطفولة بعدها أدرك الجميع خطأهم الفادح ما أن تبينوا ردة فعلها بعدما نضجت وأفرز ذلك فيها شعورًا بالإحباط جعلها تفقد الرغبة بالتفكير في الزواج أو العمل أو حتى اكمال الدراسة رغم أن الأمر لم يتعلق بدمامة أو بعدم مسحة جمالية، فقد كانت على قدرٍ من الجاذبيّة وقد تقدم لها عددٌ من الخاطبين ولكنها فقدت رغبة الارتباط أو حتى  مجرّد التفكير بعلاقة واكتفت بالاهتمام بالأسرة وخاصة أطفال اختها فاطمة وبالأخص طفلتها مريم التي فرضت هي نفسها، تسميتها بذات الاسم، تيمنًا بها والتزمت بتربيتها وتبنيها. تعتبر نفسها الوالدة الحقيقية للحفيدة مريم من فاطمة، فرَطت من قطار الزواج برغبتها واكتفت برعاية الأسرة ولشدة تكريسها لوقتها وجهدها وتفانيها في رعاية الجميع، بدا عليها أنها أكبر من عمرها الحقيقي، حتى أنها بدت أكبر من عمر والدتها ضحى ربيع التي احتفظت برونقها، فقد ظلّت محافظة على الكثير من مظاهر التزيين والعناية بنفسها، ولا تترك مناسبة سعيدة أو حفلاً أو زواجًا أو سفرًا مع صديقاتها إلا واقتنصتها، كانت في طائرة متهالِكة أو سفينة جانِحة أو قافلة شاحنات مكتظّة، ولو زجت بنفسها عنوة في حربٍ ضروس مع الزوج وبعض أبنائها. كنتُ مثل ملك لا يَحكُم، فرطت سيطرته على قواته، فلزمتُ الصمت لأنني كنت جلادًا وضحية، فعندما يتمدّد صديقي الشرس بمنتصف ليلة شتائيّة مكسوة بالزمهرير وهناك ضوء أحمر يرتعش عند منعطف فراش متورّد بوهجِ لون بشرةٍ زمردية، يتلألأ منعطف مُهلك ومن المُحال التوقف عند الإشارة الحمراء وقد سفك الشارع برميلاً من شهدٍ يطلّ من شرفة تمثيل دور عذراء أو عاهرة، أو أميرة، أو مغْتصِبة، تليه دراميات نقيضة، فأنتحل بدوري مُغتصِب أو عاشق مفطور الفؤاد، يستدعي إفساح الطريق للصديق المُتوتر، القفز من أعلى قمة حتى لو كنتُ بأقصى كوكبٍ خارج الأرض، فغصن الزيتون البرونزي في ضوءِ مصباحٍ برتقالي شاحب، وعند بقعة جليدية مع موجة شتاء تعوي فيها كلاب الشهوة، حتى لو شرّعوا قانون أمن الشغف وأشرعوا بوابات سجون الهيام، فالسلطة التي تحكمني بتلك اللحظة تفوق قواتي كلها حتى لو كانت بتحالفٍ مع قوات دولية، فحكومة ضحى ربيع الجسدية  بأريجٍ طبيعي جهنمي، منبعث عن مزيجٍ سحري وعبير عرق إبطها الخلقي، وضراوة عطرٍ اختارتهُ بذكاءٍ غريزي، كل هذا يجعلني أتفرس بهولٍ في إبهارٍ يليق بذاك الجبلين الهمجيين يستفزني نحرهما، ذاك النحر الجليدي الذي يُشبه مصب نهرٍ، ينسل من أعلى صدرها موازيًا بين النهدين، كان ذلك المصَب الضيق أولى مجازفاتي بإطلاق سراح شقيقي المُخْتل في العبث بقناة العبور قبل غزو المضيق وانتهاك حرمة صمت ضوء الغبش حتى بلوغ الانتحار بقمة جبل ناري، حاصدًا سلة فاكهة ليلية مسعورة، عند ذلك الحد الآيلة فيه السماء للانتحار، والتي بإمكانها أن تُطيح بحكومات العالم وليس بالفقير للشهوة. كنت أوْلي بعدها شطر وجهي ناحية الجدار وأسألها بغريزة منتهيّة الصلاحية وثمة زبد عالق بفمي وبقايا لهفة متعثِّرة مستعدة لانتفاضة ثانية:

“هل ابتلعتِ قرص قانون منع التفريخ؟” في نظرةٍ رثائيّة متواطئة تشحذ ذخيرتها من ابتسامة مراوغة ونبرة رشيقة مخادعة، هي ما فتأت نصف متدثِّرة بملاءةٍ صفراء شفافة، انبريت عن فخذين مصبوغين بلونين سحريين، وفي سطوة ارتعاشه من خدين موردين بجوفِ ضوء برتقالي إلهي غلب على ساحة حربٍ ضارية خسرتُ فيها قواتي وما زلتُ مستعدًا لمعركةٍ تاليّة، تأتيني نبرتها مراوغة، توهمني كأنني أنا المُنتصر في منازلةٍ فقدتُ فيها سمائي وبحري وأرضي:

“لم أعد استعمل تلك الأقراص لأنها تسبب نزيفًا، أنت تعلم، ذلك ولا تكف عن السؤال إلا بعد أن تتنفس الأوكسجين”

 تلك كانت سطوتها عليّ، لا أتبين نتائجها إلا بإعلان مباغت رفع راية حمراء، بينما الراية البيضاء معطّلة عند بوابة المداهمة، فات أوان الانسحاب، فأدرك متأخرًا فوات وقت الارتداد وثمة عصارة بشرية تتكوّن منها روح حيّة منذ هذه الساعة المسعورة، وعلىَّ أن أشحذ جيبي وأبحث عن دعمٍ دولي…  

عندما يضيق بيّ الحال، ألجأ إلى قلعة السحر النبهانية بشارع السوق، الذي تتحصّن بين أطرافه وفي ثنايا أدغاله حشرات وثعابين ووثائق صفراء سرية، إنه المكان الذي أتجرّد فيه من المشاعر والشهوات والأفكار وبريق المال والوجاهة، وأنسى الأحلام، أغوص في شعاب أسرارهِ وبراكين غرفه، وأروقته بموسيقى هدير أصواته المُبهمة، منبثّة من فجواتٍ غير مرئيّة، أتنشق غبار ماضٍ سحيق تتراءى ظلاله في الشقوق والروائح وأطناب الأغبرة الصفراء، يُخيّل إليّ أنها رذاذ تبرٍ دفين ولكنها نثارة أغبرة أشدّ فتكًا من بارود عصور الظلمة. هنا خلف جدران هذا الحصن الملاذ، تغفو بتؤدةٍ رخيّة كل مشاعري المكنونة، عانقتُها معي بفراشِ شرارة حب وولِع وسجن ووظيفة نحْسه مرتبطة بقلم وكلمة حرّة، وأغلال أبناء انزلقوا بغفوةٍ وأضغان حساد محيطين على ماذا؟ لا أفقه في هذا الشطر من العالم سوى أنني أكنسُ نفايات عقلي وقلبي، وأُهيم في رعود وبروق منزل خلفه خردله أو من كان ينوب عنه وبمداهمتي لمنزل خردله الوهمي بشارع ضوضاء سوق المحرق العام، تلقيتُ بوجهي المُتحجِر بالغبار الكونيّ، هدية الزمن العاثر، بكومةِ خراء، تستقبلني بأحداقٍ هصرتها خمرة هباء مقطّرة في براميل القيظ، غالبًا ما تداهمُها شمس نقية بأشعتها، تأتي مهداة بأطناب أشعة غائِرة خلف الغبار، فأفقد بوصلة ما إذا كان الوقت ليلاً أم نهارًا؟ تحجبُ غيوم صيفية وغبار خريفي، وربيع خيالي قرص الشمس…عندئذٍ تهرب من ثقوب النوافذ وشقوق الأبواب والشرفات، حشرات وطيور، لا أعرف كيف تمكّنت من الاختباء بباطن غبارٍ كالوحش، أتمشى بحلقاتٍ مُسهَبة من شذرات الغبار، تولد وتولد كلما توغّلتُ بالغرف والدهاليز وكأنها أفواج نملٍ لا تنتهي قوافلها، تتوالد، ثم تتوالد، هي والغبار، وتُلقي بظلِّها فوق أكوام بيوض الثعابين وخراء الفئران، “يا للهول” أفلتُ بمعجزةٍ وأُقسم ألا أعود ثم أنكص…

توغّلتُ مساءً لوهلةٍ قصيرة، مساءٌ مهولٌ مع هبوب نسمات شماليّة جافة، مشبّعة بالغبار، ورطوبة عمّت بين دفات المنزل فيما شاع الهَباب يزكم أنفي فأسبح بموجةِ نعاس تُشيّعه أنزيمات حشرات وجراثيم أتنفسها. مساءٌ غرائبي ككل مساءات هذا المنزل، تهبُ ريح جنوبية مرة وشمالية أخرى آتيّة من محرقةِ زمنٍ تليد مشبّع بروائح جيف قطط وكلاب بوحيٍ من حرارة وريح ماضٍ مبهم.

لم أستقر بمكان، ظلّلتُ أطارد نسمات شمالية سرعان ما احتكت بزخاتٍ من نسمات جنوبية لزِجة وحرارة مُفجعة لاح معها قرص الشمس من نافذةٍ عليا مُهشَمة يعلوها غبار يتسرْبل منهُ بخار. حسمتُ أمري وتجوّلتُ بين صناديق أزليّة نامت لثلاثِ قرون، ولازالت حيّة، هي ميتة ولكن جوهرها ينبض بالأسرار. اقتربتُ من إحداها وبدفقات متتالية من خفقان قلب ورعشات بالأطراف مع احتقان بالتنفُّس، انعقفتُ على صندوقٍ مبيّت ومضرَّج بغائط الفئران وبيوض الحشرات، لم يسبق أن فتحته أو تجرأت لما كان يوحيه من ديمومة خوفٍ مبعثهُ تلك الرواية التي تسربت عن دموية خردله المشوبة بأذيال سلاطين ياروبا الأسطورية التي احتلت البحرين وسفكت أرواحًا وشرّدت نفوسًا بحجّج دحر الفرس، اختلطت ألوان الموت ولكنها جاءت ميتة واحدة، إذ رافق انزال السُفن وحمل السيوف والخناجر، جنونُ رجالٍ عمالقة لم يرَ السكان مثيلاً لهم في سابق الأزمان، تداعت تلك الصورة المُتخيّلة وأنا أحتد بكل ما أوتيت من زخم عضلاتٍ وحماسة وشغف الفضول لهتك قفل صندوق الموت الذي تستدعيني أسراره. تصنعتُ البأس الذاتي وأوهمتُ نفسي بالسيطرة على خوفي، استدعيتُ رائحة قهوة داكنة تجلب السعادة كلما تنشّقتُ نكهتها لأُبعد الوجل، وبينما كنت أعالج بمعنوية متدنية مسعى فكّ القفل المعتق الصدئ، صدرت مني فجأة زخات من ريحٍ فلتّت من شرجي دون إرادة، أعادت لذهني ما كان عليه جدي بختام عمره المديد حين فقد التحكُم وظلّ سنواته الخريفيّة يهدر موجات من ضراط بلغ حد التصدي له بمعطر الغرف. كنت على وشك الضحك من نفسي حين باغتتني نوبة غثيان انتزعتني من رؤية الصندوق الذي انفجر في وجهي بكومةِ كائنات خلقيّة أدنى من حشراتٍ في هالةٍ من نشوةِ تحرُّر من غيهبِ القرون المُنصرِمة، تتضوّع روائح الغزو العماني ومعها صورة نورانيّة انبعثت بظلالٍ شفافة من بين دفّة حزمة محتويات غرائبيّة بثنايا صندوق خردله بن سماعة النبهاني تويني…

أريج حديقة تتدلّى من سقفها مرايا وزنابق أرجوانية، تفوح من ثناياها ذبذبات مُعطرة تسربل عبقها خياشيم الدهر فتوْقظ أمواتًا وتُحرك حجارة وتبث الحياة بالأصنام، تتحرك أعمدة الأرض، وتخلع السماء حجابها، وتبرز أريكة المُلْك المذهبة، مؤطرة بياقوت الرب الذي يحكم من في الأرض باسمهِ، نتأت بوسّط حديقة المُلْك نافورة بلورية تريق مياهًا زرقاء اللون وتهبُ من أطرافها نسمات كالثلج. اضطجعت ممدّدة ساقيها في الهواء بخيلاء آلهة الجمال، بفستان أصفر مزهر زاهٍ متعريّة حتى الفخذين المرْمريين يبدوان موشيين بلونين ممتزجين، بالأبيض والبرونزي مزخرفين بنجماتٍ سماوية، عيناها الزجاجيتان للأعلى وكتفاها العاريين يسبحان على نضدين من طرفي الأريكة الملكيّة…

“استيقظ!”

أتاني صوتٌ خزامي هزني من عرشِ الصمت الذي توّحدتُ معه منذ فُتح صكّ الأخلاد، تنبّتُ رائحةِ جنة آتيّة من جهة امرأة ممدّدة على طرف نهرٍ من نجوم السماء بظهيرة غروبية، لم أفطِن لفحوى صوت حرية منحتها تلك السماء حتى تصفى ليّ من صدى الصمت الجنائزي الذي يتولّى الترنّم في خبايا ذاكرتي الاستوائية وقد خطفني من ثنايا عرش الرب، ذاك الغناء الملائكي نقيض الجنازة التي أمامي الآن بورقةٍ صفراء أكل عليها الدهر وتجشأ حتى بلغت حافة الولوج في مملكة الإمام خردله. يا له من مساء خريفي يشبه القيامة، خلفتهُ تلك الحروف المتآكلة لأجتر بطريقي نحو رحلة تاليّة إلى ياروبا، لقد سرقتني عنوة ومضة أسرٍ أكثر رقة من نسمة خجل، حين تدفقَت عبر نسيج الغثيان والخيال، صورتها التي حفظتها ذاكرتي منذ الزيارة الأخيرة، جاءني هتافها:

“استيقظ، أنا ماريانا بنت مخزوم تويني” يا للهول، كنتُ قد قطعتُ شوطًا في قراءتي لخيوط عنكبوت بقلعة سوق المحرق الأثريّة التي خلفها جد، جد، جدي، وترمّلتُ على ورقة صندوق مُبيّت منذ غزوة البحرين، كلمات وحروف لم يمحها الزمن كأنها مُنزلة من سماء وهمية، وقد سطَرت رواية الغزو والثراء والفقر، بحبرِ موتى بلا قوائم، أطلوا من شرفات الشؤم وقد خلفّوا محابر عظامهم للسلاطين الأولين ليأتي من بعدهم حراس قبور يشهدوا عريهم، فيما حوريات السلاطين والملوك الشرهين، يسطرُّون خلالها بعروشهم المهزوزة، رجوليات شكّك الزمن فيها…

“استيقظ، أنا ماريانا بنت مخزوم تويني” يا للهول.

جلستُ أقرأ بورقةٍ صفراء وصوت ديكة الغروب تؤذن بفقدان الصبر، ولم انتبه إلى أنها كانت بجانبي في حديقتها التي رآها فيها للمرة الأولى خردله بن سماعة، فانتهى به المطاف للانقلاب على والده وشقيقه. كانت مسْنِدة ظهرها المشدود كغصنِ زيتونٍ أزليٍ على شفير حائط أريكةٍ رخاميّة معزّزة أطرافها بزخرفةٍ من ذهبٍ، أهلت بتألقٍ وهي مضطجعة باسترخاءٍ، مشرقة بنظرةٍ مطلة من بؤبؤ عينين بلونِ ياقوتٍ أزرقٍ كعين سمك قرش، تعبق برائحةِ خُزامى وهو ينطق ببريقٍ ليلكي، كانت آلهة، فتنة، وطلعة رجاحة ودهاء، لا تبدي ضغينة، اكتفت بنبرة خزاميه:   

“استيقظ”

“أنتِ حقًا أميرة ياروبا زوجة خردله بن سماعة النبهاني تويني؟ أنت من أحدث بلبلة في المنطقة برمتها وبسببك لمعت سيوفٌ وسُنت خناجر، سُفكت دماء وهُشمت عظام وسادت فوضى شمولية؟” غزلت رواية في مخيلتي عن ماريانا…كنت حينها أكابد اكتئاب ما بعد الجنس، تغزو ذاكرتي علاقة امرأة أجنبية في قاموس الشهوات، علقتُ معها من خلال صديق مُضيف بشركة طيران الخليج، بني جسرًا بيني وبينها بشهامةٍ، وسرعان ما اشتعلت نيران سفينتنا فغرقت معها بحفلة مجونية امتدت لسنواتٍ، كانت شّهْدة البيت الغباري ماثلتني جنوني بسحره، وحاكت أفكاري، كانت البدايات سطحية، خاطفة حتى اندلع حريقٌ هائل بنفسيتي مخلفًا سخامًا بعد رحيلها بانتهاء عقدها، لم أسعف رغبتها المسعورة في جلبها على نفقتي وتأشيرتي، كدتُ أفقد صوابي لدى عبورها الأجواء الأخيرة، كانت معتدلة القامة، ارجوانية البشرة، آيرشية المواطن، تدعى آليني. سكبت عيناها الزرقاوين، أشنع لياليّ على أنغام طائري السري، بومة بيضاء رافقتني منذ عزوتُ بيت الجد الأكبر، لم أجد تفسيرًا لوجودها بين دفتي الدار وأنا، سوى لغز، لم أبالِ فيما بعد بحلهِ، خلفته للزمن ينجدني…”استيقظ” خلطت بين نجمتين.  

ذابت أسئلتي في نوبةِ ذعرٍ لجودي كصنمٍ جاثٍ وجهًا لوجهٍ مع قرينة الإمام الأحمر، إن كانت صورتها منقوشة على تلك الورقة الصفراء، أم هي خيال غثيان ألمّ بيّ؟ فذلك مساءٌ مسْتبد استدعاني ناحية ناصيّة رعب على أنقاض غبار كونيّ وهذه رائحة جنائزية تنتشر بالمنزل المسكون بماضٍ زمني تعمهُ الفوضى والاضطراب. هذه المرأة تستدعيني صورتها المخمليّة، ترمقني بعينيّ قرشٍ، تتضوَع بوقار من يحوز زمام الآلهة، أحدقُ بعينين واجفتين خشية مُكر الملِكات، وهنّ يحفرنّ قبر المحدقين بهنّ من خارج شرنقة يرقاناتٍ، ينسجنّ الموت حول من يتسكع بعيونهنّ الزرقاء، تجرأت وسرقت نظرة حانيّة، محتالاً وراء لمحة دهشة اعجابٍ بخلق جمالٍ ساخط، ربما هي حقيقة أخاطر فيها بالمواجهة معها قد تقودني إلى حتفي مثلما فعلت بتاريخٍ مجهول وغائرٍ في سحيق الزمن. أقرأ حروفًا وأتنفّس كلماتٍ، تغادرني المخاوف بنوباتٍ تخلو من الفزع وأكتفي بالتمازج، يشدني لأبعد من الرعب الذي تمثله هذه المرأة بحياة الكوْن، تماثلُ من حيث الجسد ضحى ربيع وربما تشاركها هيبة الصمت والمكوث عند منعطف التحكُم ولكنها لا تفتقد لبأس المرأة المسكونة بالدماء من دون أن تكون شريكة فيها، فبمجرّد قبول العرش والجلوس على أريكة المُلك، أتنازل عن صوتي، وأنصت بصمتٍ كله هيبة حتى لا تتلطّخ الأنامل الناعمة بالدماء الساخنة التي لا يتوقف نهرها…

“أي نحسٍ أوقعكَ في هذه المغارة؟”

سألتني بينما كنت بين يقظة وإغماء:

“أنا من سلالة الإمام، وهنا ورقة بيدي تنطق بذلك، جدي، وجدي الأكبر خلفا لي بوقتٍ انسل فيه الجُند لساحل البحرين وظعنوا بعد موجة الغبار خلفوا لي هذه الدار ومعها خزائن تفوح منها رائحة المُلك والدم والسلالة التي تقول إنّني نبهاني، تويني، ألا يشهد غزو العمالقة المنحدرين من عُمان العتيقة على ذلك يا سيدة الجبل الأزرق، ماريانا بنت مخزوم تويني، أم تريني مجرّد خيالٍ بمكب نفايات زمن غبار مضى؟”

لمعت عيناها وساحَت كشاطئِ بحرٍ بلا حدود، لبثتُ متخدرًا ودوي طنين حشرة غريبة تُبلْبل أفكاري، وتشوِّش صورة المرأة أمامي، رغم الهواء الضبابي الساخن، تفَصّد العرق من صفحة الورقة الصفراء وسال المخاط حتى لصق بعينيّ، بلّلت شفتي حتى أتنفّس، كانت رؤيا أبدية تراءت بصورة ماريانا، أظنّها كانت بين خياليّة وحقيقية فقد لامست طرف يديّ، فارْتجفت وسقطت الورقة الصفراء مبلّلةٌ بعرقٍ غباري، فكل ما يشيع من هذه الدار الحُصن غبارٌ بلونيه الرمادي والأبدي، وكل ما يتأتى من سماء متعبة بشتى المحافل الغيبية، تبرزه نوافذ مملكة ياروبا خواء، هل أنا مستيقظ أم ما فتأتُ خارج فقاعة الزمن؟ لا يعدو سوى غثيان هباء. ظلّلتُ أنْصتُ وبيدي الراجفة ورقة صفراء، ترتعشُ كطائرٍ بلا رأس.

“أنا هنا في خيالك بحديقة القصر بالجبل الأزرق، حين غادرت أنا قصر أبي مخزوم تويني بيوم نحسٍ، سقط فيه الجبل الأزرق، من يومها برَحت سحابة الوهج، تخليتُ عن أريكة المعرفة والفن والرقص والموسيقى والقراءة وفقدتُ من حياتي الذعر منذ أن وطأت قدماي قصر الجبل الأزرق، تجرّد من رتبة هذا الزمن، لقنهُ درسًا، ماذا جاء بك إلى هذه الورقة الخرساء؟ أنت تبحث عن سلالةٍ لم تنقرض لكنها تحوّلت إلى سلالات فسفورية، منتشرة بثنايا هذه المنطقة، أنت ترتجي وهْمًا وتُطارد خيالاً واقعيًا، احذر أن تسقط في فقاعته حتى لو كسبت ورقة يا نصيب المُلْك، فأنت مدانٌ بعقد موقع بالدم، مثلي أنا محكومٌ عليّ بالتجمُّد في الدم رغم يديّ الناعمتين اللتين لم تتلوثا بالدم ولكنّني في مستنقعه منذ قبِلت بالنفاذ لعرين خردله بن سماعة النبهاني، أما زلت راغبًا بالتورُّط في بحرِ الدم النبهاني؟ حتى لو فزتَ بجائزة خردله؟”

ابعدتُ وجهي عن الورقة، فطاردتني صورة امرأة تدعي إنها ماريانا أميرة مملكة ياروبا، تلوح حينًا آليني الإيرلندية، تتشابك أنسجة العنكبوت بأنزيمات الغبار ورائحة بيوض الحشرات، فيكتسحني غثيان يغطسني في لجةٍ هلامية، تتراكم ذبذبات وتتقاذف موجات من بين زوايا وأركان فرع بيت النبهاني، يا لهول المكان والعث والصورة والمرأتين اللتين تحوّلتا لذبذباتٍ بين فينة وأخرى، بين ماريانا بنت مخزوم وضحى ربيع، ثم قفزت آليني، وكأنما عقابٌ حلّ بيّ لم أفق بعد من الصورة الأولى ذات اللون القرمزي حتى اجتاحتني صورة تاليّة ذات لونٍ رمادي وما بين هذه وتلك وذاك، تجمّدت أوصالي بصمتٍ مهيب وراجَت رائحة زمن غير هذا الوقت النحس، بعيد، بعيد غار بيّ بجوفِ وقائع غزواتٍ وحروب واستعمار وانقلابات، يقتل الابن أبيه ويسفك الأخ دم أخيه، زمن مسْتبِد تلوتُ في ظلهِ ورقة من قبل أن أعي علاقتي بزمن خردله، ولم يغريني لنسيان الأهوال، شغفي بالعلاقة والانتماء بشجرةِ الدم، هناك وراء كهوف السجون المدجّجة بالوحوش آكلة لحوم المغضوب عليهم والضالين من شعب ياروبا الذين انتزعتهم غفلة الولاء، فتعذر عليهم صعود عتبة الركوع للإمام الأحمر، فتوّلت السياط والكلاب والفهود الضارية وأغلال الموت البطيء تلقينهم صلاة الجثو للإمام وكيل السماء بالأرض بعد فوات الأوان، لا وقت لدى الإمام للعفو والصفح أو التراجع، فثمة قانونٌ عرفيٌ، لا تسامح ولا صفح فيه، إلا بإذنٍ من الرب، وهناك وراء الثقب الأسود بالمجرّة العليا لا وسيط بين الرب والعفو سوى الإمام ذاته، هكذا تدار المجرة عندما، يتحوّر العفو في دولاب الإمام.

أفقتُ وشفتاي ناشفتان، بلّلتهما بلعابٍ سال بعد ساعات من خدري، فجأة وضَحت صورة امرأة أمامي، كانت ضحى ربيع وقد استقبلتني بدهشةٍ علت ملامحها، محت البهجة التي لاحت لوهلةٍ وهي تحدقُ نحوي وأنا أدلف باب الزنزانة الطوعية، دون أن أنتبه لثيابي المدجنة من الوحلٍ والغبار وفيما كانت عليه جبهتي وعرقي الذي نضد ببشرتي واكتست أطراف وجهي طبقة أملاح زمن غابر، لم أعِ بذلك حتى انهمرَت نبرة زوجتي وهي تفض ورائي حافية وقد أقفلت المكالمة بوجه متحدثٍ أبله معها، تتعقبها سكرات سخط مكبوت تجاهي، توجّهت نحوي باستغرابها المعهود كلما ولجتُ الدار وأنا بمثل هيئة شيطانية كالتي تتوّج ملامحي عندما ألوذ بمنزل الأجداد، تتقمصني شياطين دار عتيقة، مقفلة برمادٍ وغبار وبيوض حشرات، تعثرتُ وكدتُ أنزلق وأنا أخطو ملهوفًا نحو عريني وبيّ جنوح للنوم حتى من دون مسح الغبار عن وجهي وتجفيف العرق النضد، لم تأخذها رأفة بحالي، بل تملكها غضب شدّ صدغيها حين بادرتني كببغاء:

“ستلقى مصرعك ذات يومٍ في هوسك الخيالي بهذا البيت المسموم، لو تبيعه أو حتى تضرم به النار لربما انجلى من حياتنا النحس بسببه”

كانت نبرتها حزينة ويائِسة، انهال منها برميل حنق، نزعت عن ذهني آخر ذرة اعتقاد بالأسرة السعيدة، لقد شقيتُ بما يكفي لأحقّق للجميع ما يصبون إليه، تربية وعلاج، مأكل ومشرب، تعليم وتخريج وتزويج وخِلفه، كنت كقاطرةِ قطارٍ يحصدُ محطات مترامية الأطراف، يعبرُ مضائق جمة ويصعد مرتفعات وينحدر سفوحًا، يقطع وديانًا وغاباتٍ وعرة، صحاري نائية وجبالاً سامقة، لتأمين حياة هانئة لقومٍ يتمرغون بخيلاء، ماذا ينقص لنؤجّج أسرة سعيدة؟ دار بذهني الرد عليها ولكني فضلتُ الصمت وانا بطريق الخلود للنوم، كانت الساعة الحادية عشرة ليلاً لم أدرك مدى الوقت الذي أمضيتهُ هناك بقلعةِ الحُصن، فقد دلفتُ عند الخامسة مساءً، كيف أمضيت كل هذه الساعات في غبش التاريخ؟ وفي ماذا أحصيته؟

“أسأل نفسك عيسى مرة واحدة فقط، ماذا جنيّت من وراء هوسك ببيت النحس هذا غير شقاء ونكد بثروةٍ وهميّة من وراء خيال معتوه؟ لو كانت هنالك قيمة تُذكِر لهذه الخرابة المعفنة هل تظنّ تركتها لك الحكومة؟ أتظن أنها غافلة عنها؟ سافرتَ وصرفت الأموال التي كان من الممكن تفيدنا وتسعدنا وتُحسن حالتنا المهترئة، بعثرت حقوقنا على سفرات خرافيّة، لم تجنِ منها سوى خسارة فادحة، حتى متى تظنّ سنطيق هذه الحالة المزرية عيسى؟”

ظلت تمشي ورائي فيما تود الانقضاض عليَّ حتى ردهة الصالة بجانب غرفتي وهي بقميص مطبخ مشدود كما لو كان آخر قطعة لديها  ورائحة بهارات لاذعة تفوح منها، كان رأسي يعجُ بصورٍ ومتاهات متراميّة تحفُها ابتهالات تعج بها أنفاسها المتقطعة، وشعور مفرط بالبلبلة يعصرني ويحرق معدتي، يؤجّج فيّ رغبة محمومة بالقيئ أكبتُها، فيما سخونة جسدي اللاذعة تلفظ سعير حمى تكنس بدني ليفيض مستنقعٌ من العرق، تجرّعتُ كلماتها الساخِطة بمهانةٍ حابسًا أنفاسي المحْتقنة داخل برميلٍ من الغثيان، فتحتُ باب غرفتي وظنّنتُ أنها ستتركني لكنها ولجت معي الغرفة بسحنةِ امرأة سريّة، لا تربطني بها مضاجعة سنين فتبدو كبحرٍ نشف، وتفلجت ضفتاه، بدت غرفتي مرتبة ونظيفة وكل شيء تركتهُ مشتتًا عند خروجي رجع موضعه وأفضل بتنسيق منهجي، والفضل فيه للخادمة التي توّلت ذلك منذ سنوات ولم يتغيّر دأبها.

“ستنام ولم تسأل حتى ماذا حصل اليوم مع ابنك ياسر، وقد تورّط ثانية بمخدرات أو ديّن، فقد جاءوا لإلقاء القبض عليه قبل ساعات، لكنهُ فرّ وأخشى كما حالي معه دائمَا أن تحمل لي الساعات التالية خبرًا مروعًا عنه”

“نحن أسرة سعيدة ضحى، لا تخشي شيئًا!”

صفقت الباب وراءها بحدةٍ متعمدة بعدها طوت خطواتها بنقلاتٍ تنتحب صمتًا وشرعت موشّاة بزفراتٍ منقبضة مذيعة بتلك التنهدات الجُزافية إعلان احتجاج زلزالي مكتوم اعتدتُ عليه وقت عودتي من سهرةٍ متأخرة بالليل أو رجعة من البيت المسحور بحدِ تعبيرها، زحفتُ خارجًا بتؤدةٍ دون تعليقٍ إضافي، اكتفت ببراميل استنكارات ولم تمنح فرصة سؤالها إن كانت تسمح بتسلُق ظهرها الحليبي بشذرات نمشٍ مورّدة تثير غرائز الحجر، فقد برزت كزنبقةٍ لازوردية تناديني كما منذ زمن الطفولة، وأنا أحلم بأسرةٍ سعيدة، تمكث في أمسياتِ الخريف متوَّجة بأبناءٍ وأحفادٍ صاغهم خالقٌ أبدعهم بنشوةٍ لا تضاهى، أشبه بصائغِ ذهبٍ مبدع، وترجمتُ ذلك الحلم في منعطفٍ من الحبّ في جواهر توّليتُ ريّها مثل زنابق تتنفّس في حديقةٍ تتدفق منها خمائل خزاميّة شفافة ببريقٍ أزرق كلونِ عيون سمك قرش ببحرِ أزرق، تلك بهجةٌ نائيةٌ رسمت خطوطها في ليالٍ فقد كلانا الانتباه، ولجَ كل منا بالآخر، كانت كل زفرة تنبت غصنًا في الشجرة، تكالبت نجوم السماء، وصعدنا مرتفعاتٍ تفوق الجبل الأزرق وما حوله، كانت ضحى نسمة من رياح الخماسين الربيعيّة، تهب بغبار الطلع وبحرارةِ درجة الأربعين، نتلوّى كثعابين محشورةٍ بنفق الشبق، تتساقط منا عناقيد الحبّ، شهوةٌ مسعورةٌ كحمى أرجوانية، تسحقنا حتى نلفظ أنفاسنا ثم تخطفُنا في ملكوتِ نسيانٍ أبدي حتى تشرق وتغرب شموس وتضيئ وتنطفئ أقمار، وهكذا نبتّت شجرة سعيدة، بجواهرٍ من صنع خالق ظنّ أنه سعيد… وضعتُ رأسي المثقوب بشيخوخةٍ مبكِّرة على وسادة عليها ملصق صباح الخير، طالعتني صورة ماريانا بنت مخزوم تويني:   

“لا تصدق أنك عديم النفع، مكتوبٌ عليك رؤيتي كلما فكرت بخردله!”

حياة عابِرة أعمق من مجرّد سنوات تمضيها بمعيّة حشود بشرية نضَبت من حبٍّ، يطاردونك بأهوائِهم المُسمَّمة، لا يعنون لك بيومك الطويل المُضجر سوى حُمى سليطة مستدامة، عمق الحياة مرارًا ما يختبئ في امرأة تُصادفها بطريقٍ عشوائيٍ، تسرقك من نظرة خاطفة منها بومضةٍ عابرة، تنتشلك من جزيرة موبوءة حبسْتَ ذاتك فيها كتلك التي عاقرْت الحياة معها دون شغفٍ يُذكر، وبوميضٍ زموع يخطف بؤبؤ عينيك، لمحةٌ من نظرةٍ زكيّة برائحةِ زمنٍ تليد، تسْحرك، تغرقك، تدمرك، أو تنقذك من بركانٍ أشرس وأبطش من فكِ قرشٍ مسعور، كانت تلك ومضة حثيثة وكأنها ساعة زمنٍ من مشوار رحلتك البدائيّة، مع ضحى ربيع قبل أن تصادفك ماريانا بنت مخزوم تويني، وقد أفقدتك هيبتك وجلَدتكَ بزنزانةِ ماضٍ أغبر، فتركتك مجهول الهوية، تعيث في ورقة صفراء منضّدة بعرق التاريخ، تلك الهوية أحدثت لك فجوة بحياتك فيما كنت تتقصى مجدًا بينما أنت مجزأ شظايا بين صقيع ضحى ربيع وسعير ماريانا مخزوم، لا ينفعك درعٌ خرافيٌ تحتمي فيه من حُمى سديمية تدفعها ثمنًا باهضًا لمجدٍ هل أنت بالطريق نحوه؟!!

“كيف أتسلّل لشرفةِ زمن المجد؟ لابد من فنار ضوضاء يقودني لمرفأ ماريانا بنت مخزوم تويني” دمدمتُ وأنا بالطريق لحجزِ تذكرتي الرابعة أو الخامسة، سيان، فقد نسيتُ، الوقت يفقدني صوابي “أنت تدفعينني للمجون، كلما تحدَثت عنكِ خرائط الماضي” صحتُ دون وعيٍ بصوتٍ مبحوح، مسموع، لفت أنظار من حولي، كان نهاية يوم عمل اكتظّت الشوارع فيه بنحسٍ سلب تركيزي، أغرقني في بحرٍ من زفرات حادة دونها تلك التنهدات الهاربة من أنفاسي وهي تلج بعاصفة الإبحار نحو جبال ووديان عُمان، لعل هناك ما تبقى من الجبل الأزرق “قُضي الأمر حين ألقاكِ ماريانا، لم أعد أطيق انتظارًا، لم أعد أخشى خردله حتى لو صادفتهُ حيًا يرزق بعد زمن الغبار وعقود الخرافات، سحقًا للخوف، ممّ أخاف، وأنا بنهاية العمر؟ ارتويت من الإخفاقات بسبب الخوف وحان زمن إطلاق سطوة الجنون”

قرّرتُ متجرعًا بلسم حبّ ناري حجز تذكرة إلى مسقط وأن أسكن اللهفة واتخذ من الشهوة رفيقًا، شهوة ولوج للنار، لحسابٍ ختاميٍّ في حياتي، ضباب زمن، أعدادُ جنائز رافقتُها مستيقظًا، كائناتٌ احتالت عليَّ، أكاذيب، ترهات، غمائم، جزّت غاباتٍ زرقاء، حياتي كانت مدجّجة بمطباتٍ، كلها، جميعها، برمتها، حان وقت التجرُّد من سخامها، كانت طُرقًا مسدودة، مقفرة، طوال سنين، حان نزعها، تحطيمُ الأقفال، فتحُ الشرفات، إزالة الحظائر المعفّنة من مضائق العبور “ماذا يضير الغريق البلّل؟” في تلك الأمسية انزلقت حقيبة سفري من فوق دولاب الخوف طهرتُها قبل أن أملأها بملابسي وسلالة أوراقي. قبل أن أودع ملكتي ضحى ربيع، مدركًا وحشية موقعة القتال المُنتَظرة، وضعتُ نظارة سوداء على عينيّ ونسخت صورة خردله بن سماعة:

“الخوف باحةُ فشل، كنت جبانًا، هذا أحد أسباب فشلي، والفشل يزرع الخوف، ومدى حياتي كنت مذعورًا، نوبات الذعر صديقاتي” نزعت نظارتي وتدلّت من يدي وأردفتُ بينما كانت ترتدي فستانها البحري الطويل “أهدرت حياتي وأنا أفكر بالموت بل صرفتُ وقتي بعيش حياة ترهة”

“والآن ماذا تغيّر سوى أنكَ صغت حقيبتك من أوهامٍ جديدة وستعود بعدها مفلسًا، لا تلمني إن لم تستيقظ، الأحلام تظلّ مستحيلة إذ لم تصحُ من النوم” أهدتني نظرة شوكيّة، كانت مُتلهِفة على الخروج وبيدها هاتفها وعلى طرفه الآخر صوت يصوح لم تعره انتباهًا، توقفت عجلاتها الهلامية عن السير وأردفت بنبرةٍ حربية شحذت معها أسلحة العينين واليدين والأنفاس وقذائف من الوزن الثقيل الموقوتة لاحت في بشرتها التي تورّدت فجأة:

“الحياة قصيرة، قصيرة” قالتها بمرارة، واستأنفت، لا تعد إلا ومعك جوابها الشافي”

“جواب من؟!! “سألتُها دون فطنة، بنبرةٍ غريزية، وكأنما سؤالي هو من نزع آدم من الجنة، تورّمت بشرتها، ونكبت عينيها، فاحت رائحة قيامة توشك أن تبعث من حولها، جرجر هيكله السكراب وراءها، غير أن نعيبها سال مثل رنين جرس أفعوان، صريخ داخلي لا يُسمع تدفق من نبعِ بحرها الدامي، ولأنه طمر أذنيه بسدادةٍ غير مرئيّة، إلا أن تبعات زلزلة حنجرتها من الداخل اخترقته كرمحٍ وهمي: “ورقة طلاقي منها، من ماريانا بنت مخزوم تويني، أليست هي من اغتصبتك مني؟ لا تمرّ ليلة لا تحلم، تفضل…تفضل”

لم تترك له خيارًا ليجر قدميه أو يلتقط نفسه، فتحت اعصارها من خلال تسجيل هاتفها النقال، وأطلقت السبيل لصوته الفضائي بعَج من أحشائهِ وهو هاجع يصفق ويلطم بكلمات بركانية، مفادها “ماريانا…ماريانا…خردله خردله…ماريانا مخزوم تويني، نجيني، ارغميني على…عديني ألقاك، ماريانا…ورقتك الصفراء تطويني…أب…”

ساح أحمر الشفاه، غطى الأفق، تعذر عليه تحسّس الغيوم، سحابات توغّلت في شقوق سمائه، تصدّعت جدران مدينة خيالية، تعثّرت عجلات لسانه، كاد يصرخ من حرقة المعدة، وقبل أن تنطفئ شعلة النار بذيله، أوقدتها عاصفة غبارية أزاحت قشريات بشرته المطوية بظلالِ الشكّ، الشك في نفسه وفي عقله، في أفكاره التي فقدت صمامات الأمان، انتصب كصارية خشبية على زورق غطس في اللجة:

“لم أكن لأستلقي بجنبكِ لو كنت أحدس بنيتك، أنتِ في هذه الساعة غريبةٌ عني، لستِ ضحى ربيع، لست سلة الجواهر السبع، لست إلا شبحًا لامرأة كنت أعرفها قبل زمن وباتت غبارًا، هذا كابوس، تنهّد ودنا منها، اقترحت عيناه أن يهرب، يذوب انزيمات في الجو، لكنها اقترحت شيئًا نقيضًا حين لمسَت راية زوبعة عارية مرفوعة على صارية انتقام، دنت من ارجوحته التي ارتكز عليها وخيّمت سُحبٌ وبروقٌ فوق سمائه، اهتز الهاتف بيدها وسقط على الأرض، نكست رأسها نحوه دون أن تشي عن رغبة بالتقاطه، انحنى والتقطه وقد تهشم جزءٌ من واجهته، مدّ يده ودعسه في يدها الرطبة: “كنت قبل الحلم أُضاجعك وأُطفئ لهيبك، تعانقيني حتى أنام، كيف خطر ببالك تسجيلي وأنت تعلمين أنّه كابوس ضمهُ صدري بعد كل عودة من قلعة الأشباح؟ غريبة مشاعرك” تساءل وهو يضمّ أصابعه بأصابعِها اللزِجة وقد سال الغبار من نافذة مواجّهة لهما بقرب رواق الصالة المطلة على الفناء، وقد أيقظ ضوء الشمس الخافت سكينته وانتفض على إثرها حسهُ تجاه الأشياء الجامدة ومنها المرأة التي اخترعت المواجّهة منذ وهلة، وتعرّت بعدها من أسلحتها، لم يرضخ، صفع الوجه الزجاجي وهو ساخن، واستأنف محاكمته بعد أن حطم السياج “لا يسرح معكِ الظنّ في علاقة مع ملكة أسطورية من رميم الآثار، في طفولتي حلمت بملكاتٍ كانت تروي والدتي فنونهن، أما الآن فانا بطبيعة حرفتي الكتابية، أطارد الملكات التاريخيات، عاطفتي لا تتعدى قرونًا للوراء، وصلتي مع ماريانا بنت مخزوم تعود لبيت الجد الأكبر الذي ترفضين مرّة اقتحامه معي رغم الإغواء الذي يمثله، كم ودّدتُ مطارحتكِ بين غُرفه وفي نسيج غباره، كانت لهفتي تجاهك بينما كنت أحتسي قهوتي الداكنة دون حليب وسكبتها على ثوبي وأنا أتخيّلك عارية في خلية عنكبوت لهذا كنت أنام بعد مضاجعتك وأهلوسُ باسم ماريانا ربما كنتُ قصدتك أنت هناك مكانها، قصدتك عارية بين يدي في لهوٍ أسطوري لا يتسنى للكثيرين بلوغه، سكتُ وحكّكتُ ذقني وعصرتُ جفنيّ وأسترسلتُ منزلقًا بهدوء: لكنك سفينة لم تُخلق للمياه، أنتِ في صحراء، قهقه وأبطأ من نغمته الحثيثة، زائر لبيت شبحي يجني أفضل وأروع حلم بالتاريخ، لهذا أنا موتور ومجبول بالجنون الأثري، هناك ملايين بالعالم مثلي ولست سوى واحدٌ منهم لكنى زُرِعتُ في تربةٍ غير مكاني على الأرض، قهقه مسترجعًا حثيث نبرةٍ نهائية، أنا في بلدٍ ضاع من التاريخ”

“متى ستسافر؟ سؤال استفزها وزفرته من معدتها وليس بمقدورها الوقوف، شعرت بخذلان كيانها، تؤوب بالسلامة وصن نفسك، أنا، نحن بانتظارك”

“ألا يهمك معرفة علاقتي بماريانا بنت مخزوم؟” كان مبتسمًا وذابت سُحب السُخط عن وجههِ، بذات الوقت فرَغت خزينتها من المشاعر، لم يعد بوسعها التفكير في أسئلة مع ترهُّل جفنيها من ضوئهما الساطع، ولم تناور بشرتها كما في البدء، أنصتّت لتدفق الدم في انقباض ودجها بعد انتفاخ مرير كاد يذبحها عندما كاد ينفجر، تذكّرت بغتة وهو يعالج ياقة ثوبه أنها كانت عادة ما تُساعدهُ بتحضير حقائب سفره: “دعني أُحضّر حقيبتك” ضحك وقال بنبرةٍ مازحة “لتطلعي على محتوياتها” تظاهر بنظرة العاشق “أحسُ نحوك بغيرة من ذاتك” ثم غيّر نبرته “ما زلنا بعيدين عن فهم الحياة بيننا، رغم النجوم والكواكب التي أحرزناها، سبع مجرّات كل مجرّة عالمٍ مفتقرٍ لقاموس لغات العالم كي نفهم كلاً منهم، إذا كنا لم نفهم أنفسنا نحن العالمين الاثنين فكيف بنا نفهم سبع مجرّات متتاليات، تتحرك في مدار كونيّ غامض لا يدركه حتى خالقه كما يبدو من غموض هذا الكون” قصد أبنائه وهو يدغدغها بالمجاز.

“هؤلاء أولادكْ وأنت من راهن فهمهم، قهقهت بنبرةِ توبيخ، لا تأتيني بعد ضمور الكوْن وعجز خيول السباق في كسبِ نزوة، نزواتهم، وتطالب بفهمهم، هههه، أنت من تولّى تدريبهم، دعني أرتب حقيبتك ولن أتجسس عليها، أنت مكشوف لديّ منذ عاقرت عشرين دابة بينهنّ صديقات حميمات ليّ!”   

“سنأتي على ذكر ذلك إذا رغبتي بمحاكمة عادلة لدى عودتي، رغم اعترافي بسجلي الرومانسي ولم تكن المبادأة كلها من جانبي”

“سجلك الإجرامي؟ ههه، مع العلم أنت من كنت ترمي لهنّ الطُعم” حرّفت الحديث بإقصاء ملامح وجهها المُستبد بألوان الأعاصير المكبوتة، تكلفت عدوى نعاس، وطهرَت عينيها بلونِ خسوف قمر الخريف “حدثني عن ماريانا، أهي خيال أم شمس كُسِفت في زمنٍ ما؟” أزالت نظرة ازدراء من ذكر الاسم وأردفت، كنت تلهث وراءها، حتى أني أحسدها ولو كانت مجرّد خيال، فقد اكتسبت حبك، حدثني عنها وأعدك بأني لن أتبرم”

رأى في تسريحتها المثيرة طاغية، تخيّلها تُشيد حفرة وأضاءتها بشمعة ودعته يسقط في قعرها، انتبهت لنظرته وبلّلت شفتيها.

“أحدثكِ عن تاريخ، عن ورقة صفراء مطمورة بخزنةٍ معتقة، هذه الورقة نامت طويلاً نامت حتى أيقظها ثعبان كاد يمتصني، ضحى، أنا لا أعرف إلا ما ورد في ورقة رهينة ماضٍ ولّى، من الغريب أن ماريانا أتت بعد انسحاب عمالقة مملكة ياروبا من البحرين، كيف نام اسمها في الورقة؟ اقترب منها وأمسك بيدها، كانت باردة ولزِجة، أغوته لمستها الخاطفة: لا تكوني كدجاجة، شاركيني، أقلها اتركيني اكتشف ما يحتويه الإناء”

“ماذا سيحتوي غير الغبار والحشرات؟” انتبهت وبعجلةٍ وبوقار خطفت يدها ودنت منهُ حتى انتابتهُ رائحة عطرها المُنفرة للذهن… اعذرني لا أفهم كيف جاء ذكرها بعد الانسحاب العماني؟”

“ضحى وقتها كان المنزل تحت الاحتلال، ثم تولاهُ جدي الأكبر سلطان النبهاني، الذي أرثه من بعده لجدي عرار بن سالم النبهاني، إلى جد جدي، وخوفي ألا أورثه من بعدي لابني أو لحفيدي…لا بأس، مرجح أن تكون ماريانا أختي وحينها ستبطل الغيرة، وفاجأته بنوبة ضحك هستيري وقالت معتذرة: “ستحتاج إلى الله معك ليفسر ما جرى في هذا المنزل، هل يمكن أن تأخذني له ذات مرّة، عندما تعود طبعًا قد يحالفك الحظ وتتوصل لبعض الاستجابات الطرية، أشعر برنين في أذنيّ، هل الورقة معك؟ هل يمكن الاطلاع عليها؟”

أنقذتهُ ضوضاء ابنتهما فجر، انزلقت مثل حبة رمان بين فكي حوت، لم يتوقعا هبوب رياحها، وربما أنقذته ولكن سرعان ما انفجر بالونها: “بابا حقيبتك مطوية هل أنت مسافر؟”

“كنا في حديث خاص، أجلي سؤالك فيما بعد” قالت ضحى ويبدو أنها أفسدت ما كان يدور ببالِها قبل لحظة من مغادرتها، كانت الابنة ترتدي سروال نوم وقميص وأمسكت بيدها قدح قهوة يقطر منه رذاذ الحليب وهي تتلقى صفعة الكلمات.

“هذا البيت تسكنه الأشباح أكثر من قلعتك الخرافية، غيّرتُ اسمي ولم ينفع، حبستُ نفسي ولم يسأل أحد، وقبل أن تغادر رشفتْ من قدحها، قهقهت، صحيح بيت الأشباح يقتفي آثارنا؟ بابا سألتك، لأن هذا ما تُبلغنا به ماما كل يوم”

قالت فجر عبارتها وتبخرت عن أنظار الكون، غدت الساحة للخصمين اللدودين، متصالحين مؤقتًا، ومذهولين من بعضهما، تقلبات الطقس بينهما أشبه بطقس خريف جزيرة الابتسامة العابسة، طقسها مجهول الهوية، طقس لقيط، يتشكل بحسب مزاج مرآة الكون التي تعكس تداعياتها مزاجهما…

“في المرّة التالية لو وُفقت لشيء في الصورة البارزة، خذني معك، سنتان لم نغادر وحدنا، لم نشمّ هواءً غير هواء طحالب البحر، أنت تتخبّط وأنا مزاجي مشوّش، قلقي من إفلاسٍ منتظر هذا يروّعني، أفكارك حول الكنز مُرعِبة ومع ذلك ستسافر وسأعتني بالمنزل والأبناء”

“الأبناء بلغوا الفطام وخلّفوا، بمن تعتنين سوى فجر الخرافية وهي تعيش هواجس بالغة التعقيد؟ لكنها أيضًا تعتني بنفسها خيرٌ مني ومنك، ما زلنا على قيد الحياة ضحى لا تتسرعي بالحكم على أشياء لم تنضج، قهقهت وغمغمت: سبق واحترقت…صمتت وتنهّدت وهي تهم بالإفراج عني، ثم أردفت بنبرةٍ تهكمية…

“نستطيع أن نتخذ قرارنا ببدء الحرب فيما بيننا وحتى مع الكوْن، لكن لا نملك قرار وقفها، هذا ما نفعله كلنا في هذا المنزل، لا تُفسد الأشياء ولا تعرّض نفسك للإعدام”

“الانتظار الطويل لا يقفلُ باب الحظ!” رميتُ سهمي الأخير بظهرها.

الآن، يتعرى ولا يخجل القلم %

الكتابة في زمن سقط فيه القلم، يماثل نهار غابت فيه الشمس، فأيّ مغزى لحياةٍ يحيط بها نفاق من جهة، ورثاء من جهة، ومديح من كل الجهات؟ عندما بدأنا الكتابة وأعمارنا أشبه بعمر الأزهار، وقبل أن نبلغ مرفأ الخريف ونقف عند سُدة الحكمة، كانت الكتابة بعهدنا ومع جيلنا قبل عقود خلت من التسطيح والتسويات وتبادل المنافع، عبارة عن أحلام تحتوينا، فينا من يصعد عتبة محدودبة ويظن أنه تسلق الجبل، ومنا من كتب قصيدة أو مقال أو قصة قصيرة واعتقد أنه بدأ المشوار، مع كل ذلك كانت أحلامنا تلك، لم تتعد على التسويغ والسقوط في التشويه، وعندما يسقط كاتب في حفرة الغش والتدليس الكتابي، تكفيه نظراتنا حتى يسقط من تلقاء نفسه…

اليوم يسقط القلم ويسقط معه التعبير وتفقد الأوراق بريقها وتخجل منهُ لوحات الهواتف والكمبيوترات وهي تلتقط ترهات من غير الوارد اعتبارها تعبير عن قلم بقدر ما هي (……)

انتهيت مؤخرًا من قراءة روايات الكاتب الإسباني كارلوس زافون جميعها وهي محدودة جدًا لكونه رحل قبل اكمال أحلامه برؤية عالم ينهار من أوكرانيا مرورًا بفرنسا وبريطانيا والشرق الأوسط…تركز همه كله في إقليم برشلونة، من إسبانيا الذي تعرضت لسحق مجزري خيالي على يد الجلاد المقبور الجنرال فرانكو، ولكن عندما تقرأ رواياته كلها، تُدرك أنه يتحدث عن بلدك وبلدي وعن كل مدينة في العالم وعن كل ظلم وقسوة وكبت للحريات وسحق للإنسانيات، لا تشعر بأنه برشلوني ولا حتى إسباني…تشمّ رائحة الإنسانية في كتاباته أينما أدرت وجهك وبحثت في رواياته الست أو السبع…

عندم أزعم الآن سقوط القلم وتفتُّت الحكمة وتعري الخجل الذي يكسو وجه حسناء التعبير، يجعلني ذلك أنحاز للعودة للوراء والاكتفاء بالقراءة والكتابة السرية! التي لا أرَ من يستحق قراءتها، ولكن أعود ويستفزني قلم هنا وقلم هناك، رواية هنا ورواية هناك…مقال ترهة ومقال قشة…حتى اطمئن إلى أنني أتنفس ما زلت هواءً طريًا ولكن خارج منظومة السيطرة الأحادية التي يرى فيها الجميع الأشياء نفسها، بلونٍ واحد ونمط واحد ونفاق، بلغ حدًا يخجل منهُ القلم ويتوارى محنيًا رأسه… 

الرقابة الاردنية منعت رواية بيضة القمر للكاتب البحريني احمد جمعة..2002

[10:53 pm, 15/03/2023] Bu Fahad: الرقابة الاردنية منعت رواية بيضة القمر للكاتب البحريني احمد جمعة – لدى صدورها بالعام 2002 وهي الرواية الأولى للكاتب والتي بعدها توالت الأعمال الروائية والتي بعضها منع منها “يسرا البريطانية” و”خريف الكرز” و”حرب البنفسج” في بعض دول المنطقة…كما تعرضت بيض القمر لهجوم خطباء يوم الجمعة ومنهم الشيخ نظام يعقوبي…

https://elaph.com/amp/Web/Archive/1004695392883707800.htm
[0:48 am, 16/03/2023] بوفهد: عمان -عمر شبانة: منعت الرقابة الأردنية رواية الكاتب البحريني أحمد جمعة بيضة القمر . والرواية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت – عمّان) تدمج بين الغرائبي والمتخيل متطرّقة الي بعض التهويمات الجنسية. ولم يصدر جهاز الرقابة بياناً برر فيه بادرته. هنا قراءة في الرواية.
منذ ولادة خلف الفرض ، اعتقد المشرفون علي ولادته ان امه خديجة بنت غانم، الملقبة بـ خديجة الفرض ، أنجبت كتلة لحم عفنة ميتة من المحتم دفنها مع الأبقار والكلاب الميتة، حيث القطط ترمي حية للكلاب الجائعة. فالزمان كان كساداً ومجاعة وتحللاً نتيجة البحث عن الرزق اليومي المفقود. ولد خلف ذات قيظ شديد الحرارة، امتلأ فيه الأفق بغبار مشوب برطوبة دبقة، وبرائحة عفنة تنبعث من جهة البحر المحاذية لمقبرة النفايات التابعة للبلدية، في منطقة تقع جنوب المحرق… وقريباً من قاع المدينة المدمنة علي البغاء السري والرطوبة اللدنة ، وزمنياً في الفترة الممتدة من الخمسينات حتي نهاية الستينات .
في هذا الطقس الذي طبع المكان، ولد خلف وسط طقوس ونكهات مميزة تداخلت مع النكهات المحلية. ومن هذه الطقوس ولدت الحياة التي ينتمي اليها خلف الفرض، ومنها أيضاً تزاوج السحر بالارث وبنكهات البهارات الهندية، بالملابس المزركشة الألوان، الفاقعة المظهر، ذات الانثناءات الممتدة من الياقة حتي الذيل، كاشفة عن ذوق سحري، يصاحبها نطق لغوي مقعر يلوي عنق اللهجة الدارجة، ويستدرجها الي مفردات لزجة تطمس المعني المراد، ليسبح الكلام في عوالم أهازيجية من لغة البحر والصحراء والأزقة الضيقة ذات نكهة الزعفران والزيت الحيواني.
هذه هي بعض ملامح العالم السحري الذي ولد فيه خلف الفرض، كما يصوره الكاتب البحريني أحمد جمعة في أول عمل روائي له، مستخدماً أساليب سرد تمزج الغرائبي والواقعي في واقعية غرائبية – سحرية، ضمن خلطة تنتمي الي بيئة وثقافة محددتين، يستغل المؤلف مجموعة من مصادر التكوين الثقافي فيها، سواء ما تعلق منها بالأساس الخرافي الذي تقوم عليه الكثير من الشخصيات، أو بالأساس الرؤيوي الذي يعتمده المؤلف لتصوير البيئة المحلية المتخلفة، عبر شخصيات نسائية في الأساس، وفي اطار علاقتها مع المدعو بـ سيار ، ومن بعده بـ خلف الفرض نفسه الذي سيرث الابهة من معلمه سيار، وسيرث علاقاته كلها ايضاً.
في البدء يرسم الروائي خطاً من خطوط الشخصية الخرافية، فهو الذي حملت به أمه أحد عشر شهراً، وشهدت ساعة ولادته لحظة تحول الحي بأكمله، حيث أكثر من حادثة ارتبطت في ذاكرة أهل الحي مع لحظة ولادته، فثمة – أولاً – كسوف شبه كلي لقرص الشمس منذ الظهيرة حتي المساء، كما جري في الحي – ثانياً – انتحار فتاة بحرق نفسها بعد علاقة عاطفية واكتشاف حملها، وثمة – ثالثاً وليس أخيراً – وفاة الملا بوراشد الذي لا نعرف الكثير عن علاقته بالقصة. وفي ما بعد ستذهب هذه الشخصية الي وقائع المغامرة مستقبلاً.
تركز الرواية علي طفولة خلف ونشأته في بيت تمارس أمه فيه الدعارة مع البحارة، فتنشأ لدي الطفل حاسة تنصت شاذة وغريبة، قبل أن تنمو هذه الحاسة وتتطور في سياق شهواني يغمر كيانه كله، ويجعله مستفزاً لرائحة أي أنثي، أو لصوتها ووقع خطاها، ويغدو مالكاً للنظر الي ما وراء الحجب، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بالمرأة.
ومنذ البداية نحن أمام طفل بدأ في سن الخامسة يحلم بامرأة تكون رائحتها كهذه الرائحة التي تنفذ من الحمام، وتجعله يتحول… الي صَدَفة تمتلئ بالسر . وهو يتحول تدريجاً الي عيون ونظرات تحدق وكأنها تبصر وتلمس كل ما يجري ، وقد تركزت حواسه وشعاعات ذهنه في عينيه ، حتي غدا قادراً علي أن يغزو الأجساد باختراق عشوائي . وعلي رغم أن هوس السحر الذكوري بطقوس سحرية هذا لم يتعلمه من أحد، وانها ولدت معه منذ الشهور الأولي في عمره، حين كان يتمتم بكلمات وحروف هجائية مبهمة… إلا أن البيئة المحيطة هي التي أنتجت هذه الملكات الخارقة والمعجزة.
فهو في طفولته وصباه كان يتلقي الشبق بأن يلصق أذنيه بالجدار، ليسمع صوت الأجساد وهي تتصارع… لغة التحاور باللحم. وقد أحاطت به بيوت الدعارة غربي المدينة حيث تتكدس الكتل اللحمية من مختلـف الأجناس والألوان والأعمار مما يجتذب الرجال والشباب وحتي الصبية الذين لم تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة، ممن كانوا يختلقون الأعذار للاختباء في تلك الأكواخ والبيوت الاسمنتية والخشبية… . واستمرت علاقة خلف هذه مع الأصوات والظلال وتداعيات طيف الأنثي… وامتدت به حتي السبعين من العمر محفورة في خزانة الوعي، ولم تزله حياته الحقيقية التي جرت بعد التحاقه بسيار، علي رغم كل جولاته في ما يسميه مركز الشرور الغرائزي … هو الذي لم يمسك بامرأة ويخضعها لاختبار المواجهة… وظل حتي السابعة عشرة يقود المضاجعة من مركز السيطرة الكلية بخياله وسحره.
ثمة سلسلة طويلة من شذرات السحر سيتعلمها الفتي من معلمه (الذي نشعر في لحظات من الرواية أنه والده من زواج غير شرعي مع والدته) وستكون سبيلاً لسطوع نجمه واللقب، علي رغم خلفيته وجذوره، وربما بسببها أيضاً. لكن هذا التشخيص لحال خلف سيكون ضرورياً لربطه بسيار أولاً، ثم لتوضيح مجموعة من المسائل المتعلقة بوضع المرأة وظروفها ومشكلاتها. فهو يتناولها في وضع الحبيبة والزوجة والعاهرة، ويقدم تنظيرات ناجمة عن تجربة معيشة عبر سيار وعبره هو نفسه. ومن أبرز استخلاصاته في شأن المرأة، ما يقوله سيار له وهو يعرفه بأحوالها، فهي خير وشر… عندما تكون لك فهي خير، وعندما تكون عليك فهي شر. وإياك أن تحبها، دعها تحبك وقبل أن تتعلق بك تسلل مع الريح، واختفِ في الغيوم…لا تدعها تغرقك . وقوله المرأة كالعنكبوت، دعها تتسلقك، ثم اطمرها تحتك .
ولعل ما يجدر ذكره ان صورة علاقة الشخصين بالمرأة، هي أقرب الي التصور التقليدي الذي يحمله المثقفون اليساريون عن مثل هؤلاء، لكن الصورة هنا غنية بتفاصيل حول المشروب السحري الذي يعده المعلم له وللمرأة التي تأتيه ليعالجها بسحره وشعوذته، وحول الجو الساحر في البيت المتصل بالبحر في علاقة يحشد لها المؤلف الكثير من الهلوسات والهذيانات. ومما يحسب للرواية رصدها صور البؤس الاجتماعي والاقتصادي التي تنتج حياة ثرية بالتنوع في الشخصيات النسائية، وفي العلاقة بين الرجل والمرأة، هذه العلاقة القائمة علي بعد واحد هو الجنس فقط.
لعل النسوة في الرواية مثل شريفة وفرخندة ومحفوظة بلا ارادة أمام المعلم ورغبته وارادته، وكذلك امام رجال آخرين في الحارة يعتدون علي المرأة بسهولة ويسر وبلا رقيب أو حسيب. وليس من مبرر كاف لذلك سوي البؤس والفقر. وربما يكون الطقس الحار عاملاً في نضج مبكر يدفع في ظل مجتمع البؤس هذا الي الانفلات.
هل ثمة مبالغة؟ بالتأكيد، وثمة محاولة لتأسيس عالم أقرب الي الخيال. وثمة أيضاً تكرار في الوصف وتطويل كان يمكن التخلص منه. لكن العمل الروائي قد يحتمل وجهة نظر اخري لا تري ما نراه. (عن “الحياة” اللندنية)

موت رئيس التحرير!!!

تواجه الصحافة الورقية العالمية أزمة لم تمر بها منذ نشأتها بالقرون الماضية، جاء

أتهام الصحفي الأمريكي المعروف سيمور هيرش واشنطن بالوقوف وراء تخريب خط أنابيب الغاز “نورد ستريم” بمساعدة النرويج، ليفجر هذه الأزمة، وبصرف النظر ما إذا كان ذلك من نسج الخيال، لكن اتهام هيرش بهذا المقال على حسابه بمنصة النشر الذاتي “سابستاك” وهو الذي فاز بجائزة بولتزر العالمية وكان من أبرز كتاب نيويورك تايمز …ولمن لا يعرف هيرش فهو من فضح ووتر غيت التي أطاحت بالرئيس الأمريكي نيكسون، وقبلها كان قد فضح مجزرة القنابل الحارقة في فيتنام وهي المجزرة التي أثارت موجة سخط عالمية.

 غادر هو وغالبية الكتاب العالميين بأشهر الصحف مثل نيويورك تايمز والجارديان وغيرهما تلك الصحف بذريعة أنهُ لم يعد بإمكانهم تحمُّل وجود رئيس تحرير يقود بقلمه مجزرة الشطب والمنع بعصرٍ تميّز بوجود وسائل انتشار الاخبار بمجرّد فضحها من دون صحافة ورقية، وأطلق هؤلاء شرارة انتشار المنصات الالكترونية الخاصة التي ستكون خلال سنوات قليلة قادمة مقبرة الصحافة الورقية، ما يعني موتها…

 بداية انتشار الأخبار من حيث الرواج والسرعة تقاس أو تُعرف من حيث التدرُّج بالصحف الورقية التي كانت الواسطة الجوهرية، ضمت الصحفيين والقلم والورق وهنا خلاف حول التاريخ الرسمي ولكن الغالب القرن السابع عشر، بعدها الإذاعة، تلي ذلك التلفزيون في القرن العشرين، وأخيرًا الإنترنت بالقرن الواحد والعشرين. ومنذ تلك الساعة بدأ التهديد يطال الصحافة الورقية…

مؤخرًا شهدت الصحافة هجرة الكتاب والصحفيين منها واللجوء إلى المنصات الالكترونية، سواء الذاتية التي أنشأوها لأنفسهم أم تلك التي ترعاها مؤسسات مستقلة حرة إلى حدٍ كبير، بعكس الصحافة الورقية التي يتمترس وراء الستار رؤساء تحرير هم بالواقع دمى تحركهم المؤسسات الكبرى والشركات والحكومات، هذا ما كشفة واحدٌ من أشهر وأعرق الصحفيين وهو سيمور هيرش وكثير غيره ممن فضحوا مشرط الرقابات بالدول الغربية الديمقراطية…

 إذا كان هذا حال الوضع في هذه الدول وفي صحف عريقة مثل نيويورك تايمز والجارديان، فما بالك بدول العالم الآخر؟ خذ مثلاً الصين وروسيا والشرق الأوسط، كيف تدور رحى الحقائق ضمن سياق الحريات في هذه الدول؟

هذا الاتجاه اليوم يقود لإنهاء عصر تحكُّم رؤساء التحرير وإحياء عصر منصات الكتابات الذاتية…مما ينبئ بموت رؤساء التحرير مع زوال الصحف الورقية، إن ليكن اليوم… فغدٍ…

رمزية الحلم الثوري اللاتيني…

عشقي بل جنوني بروائي أمريكا الجنونية، اللاتينية، يدفعني للغرق في حلم السباحة بالبحر الكاريبي، ورقص السلسا والمامبو مع غناء البوليرو، وشعار سيمون بوليفار محرر ثوري القرون المنصرمة…عندما أعانقأبرز هؤلاء الكتاب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والتشيلي انطونيو سكارامتا ومن بيرو ماريو بارغاس يوسا والبرازيلي جوزيه ماورو ومن غواتيمالا بالطبع ميغيل انخيل استورياس والتشيلية إيزابيل الليندي…أنتشي بأمريكا الاتينية وبالرواية اللاتينية التي تغزو العالم الآن بأسرع من الضوء وأخطر من الغزو الهوليوودي، هذا طبعًا على صعيد ثقافي…

ما الذي فجر البركاني الثقافي هناك…فوق قمم وسفوح جبال الأنديز؟ ما الذي حرك المياه العكرة الراكدة التي جمدت عضلات دول بحجم تشلي والبرازيل وكولومبيا والأرجنتين؟ أنها الثقافة الثورية…أنهم الروائيين…أنها الطليعة الأدبية عندما التحمت مع الشعوب المقهورة وعبّرت عن معاناتها وقهرها…

الشعوب هناك كما تنقل محطات وقنوات خرقت الحصار الإعلامي الأمريكي الشمالي والغربي الذي ما فتئ يحارب تلك القارة الثورية…الشعوب هناك بحالةٍ ثورية مستمرة، ليس بالطبع على منوال شعار الثورة الدائمة البائد لترو تسكي…الثورة في حالة يقظة حتى بالدول التي استولى عليها اليسار وحاز زمام السلطة بالانتخابات، الثورة مستمرة للخروج على الفقر وضد اليمين المتطرف وضد التدخلات الغربية التي لم تصدق أنها فقدت كل ثروات المنطقة التي كانت بمثابة بقرة حلوب للغرب…

اليوم هناك في أمريكا اللاتينية صحوة ثورية جديدة ليست على غرار الثورات الغبية القديمة التي سفكت الدماء ولا على الطريقة الانقلابية الهمجية…بل هي ثورت أتت منتخبة من قبل الشعوب نجح خلالها اليسار الشبابي بالتحالف مع يسار الأمس الذي استفاد من الأخطار الكارثية للثورات القديمة…هناك جمال اليوم يصاحب الثورات، رقص وغناء وشعر وروايات وثقافة يقودها شباب وأجيال شابة متفتحة للحيا ة وليس للموت الرخيص، بالرغم مما يبذلون من دماء لحماية ثوراتهم…

صحيح ويجب أن أعترف أيضا بجانب هذا الحلم ثمة أخطاء وسلبيات عديدة صاحبت وما زالت حكم اليسار هناك الذي يجب أن ينتبه لها وقد حذر كثير من الكتاب الواعيين هناك من خطورتها، هناك عدم وضوح في رؤية بعض المتغيرات للعصر وإلى وجود أجيال شبابية متطلعة لعصر جديد، هناك من يتطلع لزيارة نيويورك للغناء وهناك من يحلم بلوس انجلوس للتمثيل…هناك من يسعى لباريس للكتابة والأزياء…تصادفها وتعارضها بعض العقول القديمة في بعض الدول مثل فنزويلا وكوبا وبوليفيا ما زالت متمسكة بضبابة الماضي و شعارات الإمبريالية رغم تدخل الامبريالية غير المباشر بصورة جديدة مختلفة عن الماضي وبلون وأسماء جديدة..

الرواية والشعر ورقص سلسا والمامبو وغناء البوليرو، هي أدوات الثورة في شوارع أمريكا اللاتينية…هل أدركنا الآن مغزى ما يدور هناك في دول سيمون بوليفار؟!