الشهر: ماي 2019
جوخة الحارثي نجمة عالمية بسماء الرواية
أزمة المثقف العربي تكشف المستور…
احمد جمعة
جوخة الحارثي نجمة عالمية بسماء الرواية
“سُئلت عمن سيقود الجنس البشري؟ فأجبت: الذين يعرفون كيف يقرؤون “فولتير، وليعذرني القارئ الرصين مع الاعتذار لفولتير، باستعاضة كلمة يقرؤون، بكلمة يكتبون، هم من سيقود الجنس البشري، وفي هذا إهداء من الصميم إلى المبدعة العمانية جوخة الحارثي التي حفرت أسمها بماء من ذهب بقائمة الروائيين العالميين، رغم كل الحملة الشرسة، الحاقدة، التي رافقت فوزها والذي تستحقه بجدارة لا تضاهى، وما أحزنني وفتح جرحاً بليغاً هو تلك الحفنة من كتاب ونقاد وصحفيين عرب، ما أن أُعلن عن فوزها حتى تسابقت الأقلام السامة، والنفوس المريضة لتبطش باسم هذا المبدعة الشابة التي تحدت صمت وعزلة وخرافة الأسماء الكبيرة في عالم الرواية العربية التي لم تحقق ما حققته هذا النجمة الصاعدة بكفاءة إبداعية أهلتها للقفز على كل المتوقع والمألوف، وتحقيق إنجاز غير مسبوق بمستوى العالم العربي بمنافستها لأسماء عالمية، والفوز بالجائزة العالمية/ مان بوكر الدولية، وهذا ما أثار سخط كثير من الكتاب العرب، خاصة أولئك الذين يعتبرون أنفسهم الأسماء اللامعة الوحيدة المحتكرة للجوائز، والتي يحق لها وحدها الفوز، فصبوا سخطهم الممزوج بالحقد والكراهية لكل ما هو خليجي، فربطوا قسراً وبهتاناً بين فوزها ودولارات النفط الخليجي، وهي نغمة بالية، أكل عليها الدهر وشرب وشبع وتجشأ كذلك! ولم يجدوا ابسط عبارات لنعتها سوى أنها محجبة، وأنها من دولة خليجية، وظهر كل ما بنفوسهم من مرض تستغرب أن يكون كل هذا الكم بداخل أدباء وكتاب وصحفيين لهم أسمائهم ومكانتهم، وللأسف، انجلى هذا الحقد المتخفي وراء أسمائهم ليظهر حسدهم وغيرتهم من روائية مبدعة جديرة بالفوز، لقد كشف هذا الحسد، مشاعرهم المريضة التي تعكس فضيحة العصر الثقافي العربي الموبوء، والذي جعل هؤلاء يعتقدون أنهم أحق بالجائزة، رغم ما نالوا من رعاية طوال حياتهم من قبل مؤسسات عربية ارتبطوا خلالها بعلاقات من وراء الكواليس واحتكروا الجوائز والترشيحات وكأنها حكراً عليهم، فجاء فوز جوخة الحارثي الصادم، ليكشف ويعري مكنونهم من الحسد الذي طالما تخفوا ورائه، معتقدين أن الجوائز العربية لهم وحدهم، بصفتهم الأسماء الشامخة بسماء الرواية، وللأسف سايرتهم بذلك مؤسسات عربية وبعضها خليجية، فيما يشبه الاحتكار لهذه الأسماء، باعتبارها محجوزة وحدها للجوائز ولا يحق لأي مبدع أو مبدعة خارج سرب هذه القوائم الجاهزة التجرؤ واقتحام أسوار هذه المؤسسات التي وضعت سياجاً بينها وبين الكتاب الآخرين.
كانت الفضيحة الصارخة الدامية، هي فوز الرواية جوخة الحارثي بأكبر جائزة عالمية للرواية، وهي التي لم تفز بأي من الجوائز العربية، بل ولم تصل حتى للقوائم الطويلة فيها، وهذا ما عكس الصدمة بالواقع العربي الثقافي وفجر موجة الحسد والسخط عليها وكأنها جريمة أن تفوز بجدارة بجائزة البوكر العالمية، لأنه برأي واعتقاد هؤلاء الكتاب المرضى الذين لم يتوانوا من تشويه فوزها وصب سخطهم عليها بكومة غضب وغيرة، لا تستحق الفوز، لقد كشفت عن نفوسهم الغريبة التي لا تنسجم مع المشاعر الإنسانية والحضارية التي عادة ما تميز المبدعين في العالم، لقد انكشف المستور وظهرت بواطن الأمور المستورة وراء كواليس العلاقات الخاصة والسرية التي تربط بين هؤلاء الكتاب والمؤسسات الثقافية العربية، حينما لم يتخيلوا مبدعة عمانية خليجية تحقق هذا المنجز العالمي، الذي باعتقادهم هو حق محتكر لهم، وما آلمهم باعتقادي هو عدم تحملهم أن تكون الجائزة من نصيب عمانية خليجية، وقد ظهر ذلك جلياً بتهمة دولارات النفط الخليجي، والمؤلم أن تسايرهم أقلام وصحف خليجية، تروج لهذا السخف، والهراءات. لقد فازت جوخة الحارثي بالجائزة، وهي أول عربية تحقق ذلك، وحان أن يكف هؤلاء عن النباح، وغلق مأتم البكاء، لأن الفائزة تستحق ذلك عن جدارة، وهي تشرف العرب والخليجيين والعالم الجميل الذي تنتمي له الرواية.
لقد كشف فوز الحارثي كثير من مظاهر الفساد بحالة الثقافة العربية، وعرى كثير من مشاهد مخفية لسنوات تمثل الاستئثار بالجوائز العربية لقائمة من الأسماء المحددة التي تتوالى على هذه الجوائز ولا يمكن أن يخترقها أي مبدع خارج دائرة المقرر لهم الاستئثار بها، وحين جاءت الحارثي التي لم تفز بالجوائز العربية ولا حتى بقوائمها الطويلة والقصيرة وتحصد المان بوكر الدولية، ساد الوجوم هؤلاء وبرز الحسد والغيرة، وحقيقة أنا شخصياً سعيد مرتين، الأولى بفوز المبدعة العمانية جوخة، والثانية، تعري هؤلاء وانكشاف حقيقتهم الحاقدة، بالإضافة لدور المؤسسات العربية، التي احتكرت بضعة أسماء اكتفت بتدوير الجوائز بينهم، فها هي الحارثي، تقفز على الجوائز العربية، لتأتي بالدولية، هذه هي صورة فساد الحياة الثقافية العربية التي تشمل كتاب ونقاد وصحفيين، ومؤسسات رسمية وخاصة ومؤتمرات وقعت بآفة الفساد المستشري بالجسد العربي الذي خضع للتبادل الشللي، لقد امتد هذا الفساد واستشري بالحياة الثقافية بغالبية الساحات العربية التي رزحت بأشنع مظاهره.
ما يبكي ألماً أن تقرأ لكتاب عرب، حروفاً تقطر حقداً على مبدعة عربية، كان يفترض أن يسعدوا لها بمجرد فوزها لأنها تنتمي للجسد العربي، ولكن للأسف لم يحدث ذلك، فبينما العالم والصحافة الدولية تستقبل فوز الروائية جوخة بسعادة وانبهار، رأينا جرائد وصحف وكتاب ونقاد، عرب يصبون غضبهم عليها، بكتابات تقطر، حسد وغيرة، وهذا يفضح ما يجري داخل أروقة الثقافات السرية التي اقتصرت دوائرها على أعداد محدودة من الكتاب الذين تولوا شأن الثقافة والأدب بالمؤسسات الثقافية الأدبية؟ ثمة فقاعات تبرز بين حين وآخر يتم تغطيتها بسرعة هائلة وثمة مظاهر للفساد بداخل المؤسسات الأدبية، ولكن لندع ذلك كله ورائنا ولنحتفل بفوز جوخة الحارثي بفوزها الجميل الذي شرف العرب والخليجيين والعالم، وهي بحق مبدعة استحقت الجائزة عن جدارة فتحية اعتزاز بها ولمستقبلها المشرق بعالم الرواية…
نعوم والاخوان …
بواسطة نعوم والاخوان …
نعوم والاخوان …
“من رواية” رقصة أخيرة على قمر أزرق”
نعوم والاخوان
“من غيري يسمعني، هربت مؤخراً من الشارع المغبر الضيق.. رحت أجري بالسيارة كما أركض بقدمي، ألهث، كان الوقت ضيقاً وكنت أهم بالهروب المستمر إلى مزيد من الشوارع المزدحمة وهي تختنق بالسيارات والأرصفة التي تعلوها تلك العربات في حشد مجنون منها ومن الناس والأصوات وهذا ما ساعدني على التحرر من الذكريات، أخترق البنايات، أتركها خلفي وهي تخلو من الملامح الحية، إنها تبدو بلا حياة وغير مسكونة بالبشر، كنت شديد الإرتياب، تساورني الشكوك في كل ما حولي، تؤجل تفكيري في الأشياء، أجانب وروائح منبعثة، مياه متسربة من الشوارع وبين هذه الصور وصورة النائب القادم في برلمان البلاد نسيج مشوّش يقودني إلى عدم التركيز بين ما تمليه عليّ نعوم وما يحمله المجهول الذي يجرني لقاع الأفكار السلبية المظلمة والتي تحاصرني وتجلب معها التوقعات المعتمة، وهي تستفزني طوال الوقت، خروجي إلى الشارع وهيامي بين المتسكعين والضجيج والغبار والهواء الساخن الذي يملأ رئتي بالمرارة يستنفذ مني روح المرح، كل الخوف من ألا اقدر على الإندماج في الدين ولا أتكيف مع الملتحين وقصار الثياب وإتقان اللغة التي يتحدثون بها- جزاك الله خيرا- من أين أبد هذا الانغماس في العالم السفلي للإخوان ؟ كيف أُحشر نفسي بينهم وإلى أين ستقودني الدروب؟ لو نجحت ودخلت البرلمان ستتغير حياتي وسوف أصبح شخصية نافذة معقولة وستحل كل الأمور المالية والنفسية وربما أتزوج من فتاة قاصر كما يفعل الإخوان وأضمن ان تبقى نعوم مكرمة ومعززة في دارها من غير أن يأخذ علي المجتمع مأخذاً، فسُنة النواب اليوم ومن في حكمهم هو الزواج باثنتين أو ثلاث.. لماذا لا أبتسم لهذه الأفكار والتداعيات؟ ولماذا الحزن في نبرتي الداخلية والخوف والقلق من الآتي ؟، ألا أثق في نفسي وقدراتي؟ آه.. ماذا يجري هنا؟ لماذا أنا خائف؟ خوفي يقتلني يوترني حتى أنني لا أستطيع التنفس ولا المضاجعة ولا التلذذ بالطعام والنوم، ماذا لو فزت في الانتخابات؟ ودخلت البرلمان وواجهتني الدنيا بترفها؟
النور الذي تدفعني إليه نعوم يجتاحني، يضيء الكون من حولي، أرى بعينيها وأفكر بعقلها وأسير حسبما تهوى، تركت مصيري بيد نعوم ترسم خطواتي وتضعني على سكة القادم المجهول الذي لا اعرف ما وراءه..آه يا لنعوم ولأفكارها السامة القاتلة التي تأخذني إلى البعيد وتتركني أسبح وحدي وهي تراقبني، هدفها الوصول إلى البرلمان والسيارة الفخمة والراتب والنفوذ والوجاهة ومن ثم الانتقال من هذه الشقة التي تستنزف راتبي إلى منزل كبير بحديقة واسعة وبركة سباحة تظللها أشجار الرمان التي كانت تحلم بها منذ أن سكنت دار الشيخ سيار مع سلسلة متصلة من الأشجار، من الليمون والمشموم والياسمين والورد المحمدي.
صوت الشيخ فضل يتسلل بأعماقي من غير أن استدرجه حين يطفو على سطح أفكاري ويتداخل مع صوت مبارك حين كنا شباباً نغرف من عسل ومرارة الحياة وما زلنا شباباً ولكن من دون نفس طويل، ولا شبق دفين ولا حتى حنين للجسد ولروح الأشياء التي كانت تغرينا، ما عدت أبحث عن الرغبة التي كانت ذات مرة شديدة بدرجة خط الإستواء الذي يحرقنا،استرخت كل الرغبات بداخلنا ولم يعد إلا التشويش يهيمن علينا وكل الدوافع الحسية أصبحت اليوم تصب في الوصول مع الإخوان إلى مقعد في البرلمان لتدار بنا البلد ويتخذ غيرنا القرار فكما علمت طويت من فكري كل مشاعري ورغباتي وغرائزي عندما وقعت على ورقة مع المكتب السياسي للإخوان على الإلتزام ببرنامج التنظيم، لا فنادق مفتوحة ولا سياحة مطلقة ولا خمور ولا بارات ولا عاهرات تهيم في منتصف الليالي عند بوابات الفنادق الحقيرة من ذات النجمة والنجمتين، لماذا هل فنادق الخمس نجوم أكثر حشمة؟ هذا ما عرفته من الورقة التي كانت جواز المرور إلى النيابي، من أين اسقي ظمأي إذا أسهمت في حظره؟ لكنها السياسة والمكافأة والسيارة والجواز الخاص الذي يجعلها تستحق، علماً بأنه ستأتي الثمالة من حيث بحثت عنها فلم كل هذا الخوف والقلق، مع نعوم الحق، فلأذهب إلى نهاية النفق.”
****
كان طقس الدوحة حاراً كبقية المناخ السائد في المنطقة رغم دخول فصل الخريف، وسرى المساء برائحة الأطعمة المتعددة الأصناف التي امتلأ بها مطبخ القصر الذي تقيم به الشيخة خلود، ضج المكان بأصوات النساء والفتيات والخدم، فهناك مأدبة عشاء كبيرة دعيت لها نخبة من النساء على شرف وجود خلود التي استقرت منذ أيام بالقصر، كان دفء المكان وفخامته وعبق الروائح يوحي بالبهجة والإنتعاش مع الحيوية التي تطبع وجوه المتواجدين، وتنقلات الخدم من الرجال بأواني الطعام والشراب عبر الصالة الكبيرة التي تتوسطها الأعمدة المطلية باللون الذهبي، والتي تفصل بين مقاعد الجلوس وصالة تقديم الأكل المرتبطة بالمطبخ بدت الحركة وأصوات الكؤوس تختلط بالأحاديث التي لا يتبين شيئاً مما يقال لتداخلها مع بعضها البعض،ظهر القصر من الداخل مزدحماً بالحضور وازدان من الخارج تغطيه الأنوار المنبثقة من مئات المصابيح المختلفة الألوان، وحوله انتشرت عشرات السيارات من مختلف الماركات وراح اثنان من الرجال ينظمان حركة الوقوف عبر الموقف المحاذي للبناء.
ظهرت الشيخة خلود بفستانها الأبيض الطويل وقد زينت عنقها بعقد من الألماس، بدت بشرتها البرونزية تميل للبياض وسط أضواء المكان الحادة، واكتست ملامحها حيوية تنم عن حالة من الاسترخاء الظاهري، وبرزت عيناها الواسعتان وهما تحدقان حول المكان وقد صحبتها شقيقة عيسى التي قامت بالسير معها وتقديمها للنساء وسط فرحة الجميع بتواجدهم معها.
جرت كل هذه المراسم وهي محتفظة بمشاعرها مستقرة، وجمد تفكيرها عن السير وراء إحساسها الداخلي المختلف عن مظهرها الخارجي والذي حافظت من خلاله على توازنها وعملت على التماسك والظهور بثقة قوية وهي تستقبل ضيوفها، وقد برز من بين المتواجدين بعض من أفراد عائلة زوجها الذين أبدوا فرحتهم بها
رواية “لص القمر سنمار الإخباري” وراء الكواليس
رواية “لص القمر سنمار الإخباري” وراء الكواليس
أسبق الزمن ويسبقني
في العزلة يكمن شيطان السرد!
العزلة ليست كبرياء
لم يسبق أن حضرت ندوة عن السرد، و لم يسبق أن وقعت كتاباً من كتبي العديدة طوال هذه السنوات لأنني أخشي السؤال القبيح والفضولي المعتاد في مثل هذه المناسبات وهو: ماذا تروي؟ أو ما هو مضمون كتابك؟
سؤال غبي، لا يوجد كاتب في العالم يحترم حروفه يُجيب أو يشرح أو يفسر ما كتب وإلا ما فائدة القراءة حين يسرد الكاتب محتوى كتابة؟ لذا اخترت العزلة، بل بنيت منها كوخي الصغير النائي وسكنته بعيداً عن أضواء الكاميرات وسؤال الحمقى عن معنى الكتابة، حتى أوقعني سوء حظي أو قل عفويتي بدافع التعاطف مع مجموعة فتيان وفتيات ركبوا موجة الكتابة المشاكسة البعيدة عن المألوف وأسسوا نادياً للسرد بدون ترخيص ومارسوا لعبة التفاصيل في السرد.
جنون السرد أوقعني في شباك هؤلاء الفتية والفتيات المتحمسين للكتابة المشاغبة بعيداً عن واجهات الروتين والرتابة التي بَصَمَت عالم السرد الحالي برتابة وتطفل ووجاهة فارغة، أنهم سحرة السرد الجدد الذين سئموا ويأسوا من فضاء السرد الممل فولجوا عالم غير مألوف أجد نفسي متعاطفاً معهم، لذا أنا أمامكم في واقعة السرد بعنوان “التفاصيل في السرد”
“عن ماذا أتحدث”
بحثت في أعماقي عن حبكة درامية أو قصة خيالية أو حتى حكاية ما تائهة في بطون الكتب الصفراء التي محقها التاريخ حتى قادني التقصي الأهوج إلى المجهول، لتفاصيل حكاية غريبة على الخيال، بل تتجاوز الخيال بحدة تكاد تكون واقعاً حياً نعيشه الساعة، فخلال البحث الذي دام سنوات عادت بي الذاكرة المنهكة لأنبش ما سردته تلك السنوات ليكون شاهداً على فضاءنا الراهن، نعم قادتني ورطة مقهى الروائيين الجدد غير المرخص لنفض الغبار عن كتب التاريخ الصفراء المخرفة واستخراج هذه الرواية الخيالية التي زادها خيالي الشخصي خيالاً فتصورا خيال يفوق الخيال ويقود للواقع.
اسمحوا لي الليلة بالذات، وأعشق السرد بالليل أن أفاجئكم بمثل ما فاجأني هؤلاء الفتية الأشقياء وهم يعلنون عن اسمي في أمسية دون علمي لأخرج من ورطتي بهذه التفاصيل السردية وأعتذر إن صدمكم الواقع بوجود مثل هذه الأحداث التي خُيل لي للوهلة الأولى أنها من صنع الخيال وأترك لكم الحكم عليها إن كانت خيالاً شططاً أم واقعاً مأزوماً.
أهلاً بكم في قصر الملك الأعور، وأبدأ أولاً بالسبب الذي زج بي في هذا القصر الدموي المسحور والموبوء بكل ما مرت به البشرية وما لم تمر به، فالوقائع كلها مرت أمامي من هنا الليلة بالذات، استأذنكم بإطفاء الأنوار الحادة والاكتفاء بضوء القمر الذي تسلل من شرفة المكان ورجاء غلق هواتفكم حتى لا تصور أو تسجل تفاصيل ما يدور، لأنه صادم بكل المقاييس والمعايير ولكنه حدث مرة ما!
كيف؟ وأين؟ ومتي” اكتشفوا بأنفسكم.
هكذا بدأت سرد رواية “لص القمر سنمار الإخباري”
صدرت عن دار الفارابي – بيروت في 592 صفحة الحجم الوسط
توزيع:
دار الفارابي بيروت
مكتبة جيشنمال – ستي سنتر
المكتبة الوطنية وفروعها
نيل وفرات. كوم
مقالة رائعة اعتز بها، عن روايتي “بيضة القمر” للصديق ابراهيم نصر الله.
مقالة رائعة اعتز بها، عن روايتي “بيضة القمر” للصديق ابراهيم نصر الله.
مقالة رائعة عن روايتي “بيضة القمر” للصديق ابراهيم نصر الله اعتز بها…
رواية (بيضة القمر) لأحمد جمعة
خيال جامح يرصد تحولات الروح والمجتمع
إبراهيم نصراللـه
كان ميلاد (خَلَف الفرض) في رواية (بيضة القمر) للكاتب البحريني أحمد جمعة كافياً لخروج عالم بأكمله من براءة كاذبة تستَّر وراءها زمنا طويلا، وكان موته الشفاف في النهاية أشبه بحلم ينشد براءة أخرى، من الصعب أن تنمو ما دامت جذورها تمتد إلى ماض لا يشبه تطلعها.
وبين الصدمة الأولى والحلم الملتبس الأخير تفترش الرواية أحداث بالغة القوة والقسوة، يرفعها إلى ذراها خيال وحشي.
ورغم أن (بيضة القمر)، الصادرة في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في مائتين وتسع وثمانين صفحة، هي الرواية الأولى لأحمد جمعة لكنه جاءها معززا بخبرة كبيرة في كتابة المسرح، بدءا من شهرزاد الحلم والواقع، الصعود إلى المنحدر الرمادي، أبو نواس يرقص الديسكو، فنجان قهوة للرئيس، وانتهاء بنصين مسرحيين قصيرين أخاذين : الفراولة المجنونة، وذلك النص الذاهب في عبثية خلاقة حول علاقة رجل وامرأة في أجواء حرب الخليج الثانية، وقد نشر في مجلة أفكار الأردنية قبل سنوات، كما أن علاقة أحمد جمعة بالسينما والتي أعطتنا ذات يوم كتاب (سينما التحولات ـ رؤية في سينما يوسف شاهين) وانشغالاته الفكرية في كتابيه كرة الرماد والديمقراطية الإلكترونية، مهدت الطريق، ليس لولادة (خلف الفرض) الأعجوبة بل لولادة رواية ذات مذاق خاص.
لقد ذهب أحمد جمعة إلى النقطة الأكثر إبهارا وغرابة وطزاجة، ونعني هنا تلك المرحلة العجيبة التي ينتقل فيها المجتمع من طور إلى طور، ويمكن أن نستعير عنوان كتابه عن يوسف شاهين ونحن نصف روايته هذه فنقول إنها رواية التحولات.
مثل هذه المرحلة تبدو نادرة في حياة المجتمعات، كما هي نادرة في حياتنا نحن كبشر، ولذا ليس من الممكن كتابتها من قبل الكاتب الواحد سوى مرة واحدة، لأن الرجوع إليها يبدو مستحيلا، تماما مثل الكاتب الذي يذهب ليعتصر تحولات طفولته في عمل روائي أساس، يصبح من الصعب عليه الرحيل إلى تلك المرحلة في عمل آخر.
إننا، إذن، أمام عمل يكتب مرة واحدة لا غير.
من هنا تكمن خطورة رواية (بيضة القمر) في مسيرة كاتبها، وإن كانت المرحلة ذاتها قابلة لأن يذهب إليها كتّاب آخرون ليعايشوها عبر تجاربهم التي تحسسوا بها الحياة آنذاك، إذا ما أتيح لهم الأمر.
لقد ظلت مراحل التحوُّل أثيرة على قلب الرواية في عالمنا العربي والعالم، لأنها تصوِّر ذلك الانتقال الرهيب عبر القسوة والحرمان وفقدان الدليل والبراءة وصولا إلى عتبة تاريخ جديد ومعايير جديدة.
تبدو الأحداث هنا أكثر تعقيداً من أن تشبَّه بتغيير الثوب أمام العتبة التالية، لأنها في الحقيقة أقرب إلى تغيير البشر أنفسهم، سواء أولئك الذين أتيح لهم بمعجزة براءتهم أن يتجاوزوا العتبة نحو العالم الجديد أو المرحلة الجديدة، أو أولئك الذين كان لا بد أن تتخفف الطريق من ثقل خطواتهم، وينتهون موتى.
في هذه المساحة الشاسعة من شبه الحياة، تتحرك شخصيات (بيضة القمر) تولد قليلا وتموت كثيراً، ويمكننا أن نلاحظ بيسر أن الموت، المادي والمعنوي هو الذي يفترش الرواية، أما الميلاد الحقيقي فهو ليس أكثر من بشارة يحتضنها رحم (نعّوم) التي تتحسس بطنها في المشهد الأخير من الرواية حيث (فوجئت بالمكان نظيفاً والمياه صافية زرقاء رغم هول الموج) وتهمس لنفسها بفرح (خديجة أم سيار؟)
هذا الصفاء لا يحتل في (بيضة القمر) سوى أسطر قليلة لا غير، في صفحتها الأخيرة، أما باقي صفحاتها الـ (289) فهي غارقة ومنذ السطر الأول في أجواء مرعبة لا مكان لنسمة هواء واحدة فيها.
وبقليل من التأمل يمكننا القول إن هذه الأجواء هي أشبه ما تكون بمرآة هائلة لتلك الشخصيات. ولذلك ليس ثمة مسافة بين الخشبة وذلك الذي يتحرك فوقها هنا، إنهما في الحقيقة قطعة واحدة. وحين تلوح إشارة صفاء من البشر ممثلة بنعوم، لا يبخل الروائي على هذا الصفاء بمنحه ساحلا نظيفا ونقيا في السطور الأخيرة، لكنه لا يذهب بعيدا في تفاؤله بحيث يقبل أن يلوي عنق التاريخ.
يبدأ احمد جمعة روايته تاركا المجال لخلف الفرض بنفسه أن يصف لحظة ميلاده، ولعل إدراك الشخصية لواقع كهذا جزء أساس من نظرتها إلى نفسها في مرآة كلماتها هي، لا تلك التي يسردها آخر عنها: (ولادتي بدأت ذات قيظ شديد الحرارة، امتلأ فيه الأفق بغبار مشوب برطوبة لزقة، وبرائحة عفنة تنبعث من جهة البحر المحاذية لمقبرة النفايات التابعة للبلدية، حيث اعتقد الذين أشرفوا على ولادتي أن خديجة بنت غانم أنجبت كتلة لحم عفنة ميتة من المحتم دفنها مع الأبقار والكلاب الميتة، أما القطط فترمى حية للكلاب الجائعة..)
إن قراءة سريعة لهذا المقطع، وهناك الكثير الكثير غيره في جسد الرواية، يشير، ومنذ البداية إلى أن (خلف الفرض) كان يدرك موقعه تماما ككتلة لحم عفنة ميتة، وسنحس دائما بأن هناك (رجل ميت يمشي) لكنه يبحث عن ثأره في كل ما يمكن أن تطاله يداه، أو خياله الوحشي القادر على اختراق الأسوار والملابس والحجب واقتياد النساء إلى (عالمه السحري مخترقا الأكوان والعوالم السديمية بداخلهن ليصبحن فيما بعد رهائن في قلعته المسحورة باللذة والوحشية) ولا يختلف الأمر مع خديجة، أمه، التي تنتقم بطريقتها الخاصة (ليلا) من كل النسوة اللواتي يقمن بإذلالها وهي تعمل في بيوتهن (نهارا) عبر استدراج أزواجهن، ومن المفارقة هنا أن جسد خديجة الذي يعصف به الشقاء هو الذي يرممه الشقاء أيضاً فيعطيه هذا القوام المشدود اللافت الذي لا تتمتع به نساء مترفات بتدللهن وليونتهن.
وإذا كان الجو المحيط هو ما يمرئي أحوال البشر وسلوكهم، فإن خيال خلف الفرض والذي يعيشه بسرية قادرة على انتهاك كل شيء والتخفي بواجهة البلاهة، هو ما يمرئي الحياة السرية الفاحشة التي يعيشها سيار (والده) وهو يتستر بواجهة الورع. ولذلك كان من المنطقي، فيما بعد، أن يرث الابن كل ما يملكه الأب من قوة قادرة على سلب النساء عقولهن واطلاقهن من مكامن أجسادهن إلى غير رجعة، وتلك الهيبة التي يسيطر بها على الأرواح وتسخيرها لخدمته. كما يمكننا أن نلاحظ أن خديجة نفسها صورة لمولودها: (ولدته امرأة لزجة الوجه تدعى خديجة الفرض، وتستمد هذا اللقب من رجل مجهول لا يعرف أحد من يكون؟ أو من أين جاء؟)
إن أجمل ما فعله أحمد جمعة أنه لم يدع هذه الشخصيات تذهب إلى ما لا نهاية في سوادها أو بياضها، فقد ظل شيء من البياض أصيل في هاتين الشخصيتين وسواهما، فقد أبقى على شيء من الورع الحقيقي وشيء من البلاهة الحقيقية، لكنه وهو يفعل ذلك ترك المحيط العام هاجعا في الصورة الخارجية لهما وأسيرا لها حتى في الأشواط الأخيرة من العمل.
كل الشخصيات قابلة لأن تكون عكس مظهرها في لحظة ما، أو عكس صورتها، متمردة على المرآة الجمعية التي حددت ملامح (هذه الشخصيات) بالقوة، أو بالقسوة لا فرق؛ ولذلك، فإن ما يسجل لبيضة القمر هو ذلك الإدراك بأن كائنا بشريا ما سيظل موجودا داخل هذا الوحش الاجتماعي الذي يطبق عليه ويمنعه من الظهور.
يمكننا أن نلاحظ مثلا، أن إنسانية الوحوش تتجلى في وحدتها، أو حين تنفرد مع شخص واحد قريب منها، إنها تجلس أمامه، دائما، كما تجلس أمام نافذة الاعتراف بلا أقنعة: سيار، خديجة، فرخندة، محفوظة، زمزم، ونعوم التي يفترسها الحب من الداخل غير قادرة على التعبير عن حبها سوى بالانتحاب، وحتى خلف الفرض، فكل الشخصيات تسقط في براثن إدراكها لوحدتها القاتلة:
(ليس لي في الدنيا سواك)
(وأنا كذلك)
(أنا تعِب)
(قهوة سوداء قوية يا نعوم)
(كل هذا الهواء والعرق يتصبب مني؟!)
(ليس لك مكان في هذا العالم، ولا وجود لأرض يبدأ منها المرء مرة أخرى)
(أنت أبوي وأمي وأخوي وكل أهلي)
(قضيت بضع سنوات هنا كالغريب.. وستقضي أنت السنوات التالية من عمرك في هذا البيت كالغريب، فلا بأس عليك، كلنا في هذه الدنيا من الغرباء)
ليس مهما في الحقيقة أي شخصية هي التي تقول هذا الكلام، لأن الشخصيات في هذه الرواية مُعَذَّبـةٌ بوجوهها الكثيرة، أو معذَّبة بأقنعتها، وعلى المرء أن يتأمل هذه الشخوص طويلا لكي يصل إلى نتيجة حاسمة، أهي شخصيات طيبة أم شريرة فعلا.
كان من عادة المعجزة في التراث الإنساني أن يكون مولدها من إشارات النور ومعانيه، لكنها هنا غير ذلك تماماً، إذ يأتي مولد تلك (الكتلة العفنة من اللحم) التي تُدعى خلف، المجللة بالفضيحة، وشبهةِ النَّسب لبحارة وسكارى وأعيان وشبه أولياء، والتي تعمل الأم (خديجة) على بقائها بعيدا عن الأعين، يأتي ميلادها كميلاد بقعة من الظلام لتعكير ذلك الضوء الزائف الذي يفترش كل شيء.
تبدأ نهاية تلك المرحلة من التحول، مع ميلاد لا يبشر بزوالها، بل بالذهاب بها إلى أقصى حدود جنونها؛ ولذلك فإن ميلاد خلف هو الجمرة التي ستظل تستعر وتستعر تحت ذلك الوعاء المغلق بإحكام والممتلئ بالكذب، حتى يصل هذا الوعاء بما فيه إلى انفجاره وتصل الجمرة نفسها إلى شبه فنائها.
يقدم أحمد جمعة رواية مغايرة في هذا المنظور، ولعل ما يضاعف هذا الحس ويدفعه للأمام، أن براءة نعوم الحامل، تظل خارج إدراك ما حدث، حين نتذكر أنها وهي تفكر باسم لجنينها، تظل مربوطة ومعلقة، هناك، بالماضي، ولا تجد من الأسماء سوى اسمَي (خديجة وسيار) فاتحة ببراءتها تلك الطريق واسعا لدورة جديدة. ومن هنا تغدو الرواية صورة لمجتمعات عربية كثيرة، وهي تتخطى حدودها بهذه الدلالات البليغة القائمة في معنى هذا التناسل..
ثمة رعب يسكن هذه النهاية، أكثر مما يسكنها الأمل، وثمة علاقة بين ميلاد خلف في صفحتها الأولى ووعد قدوم المولود الجديد في صفحتها الأخيرة، لأن ثمة شخصية لم تتعلم الدرس هي التي تمثل الآتي، وهي آخر الأحياء وآخر الشهود.
قد تبدو رواية (بيضة القمر) صالحة بذلك للاستمرار في جزء آخر، يتمّمها، لكن الأمر لن يكون سهلا، لأن مرحلة التشكُّل الساحرة ومفارقةَ البراءة، تظل أجواء من الصعب أن ينافسها المرء في عمل آخر، وإذا ما تم ذلك، فإن على كاتبها أن يؤسس لبراءة من نوع مختلف تمرئي ذلك الماضي بغرائبية تستعيض عن ذلك الماضي. لكن الشيء الواضح تماما هو أن رواية (بيضة القمر) ستظل رواية (قادمة) على مستويين، الأول باحتمالات رؤياها غير التقليدية أبداً، والثاني في أنها رواية تنتمي لمستقبل الرواية العربية، باعتبارها واحدة من الأعمال القليلة التي يمكن القول بأنها تحمل طاقات تجددها العميقة التي تمنح الناقد والقارئ فرصة لقراءات جديدة لها وهي تكتب نفسها باستمرار برؤياها الفنية.
-
بالفعل جاءت تكملة الرواية بجزئيها ، “قمر باريسي” و “رقصة أخيرة على قمر أزرق”