عندما يفقد شعب ذاكرته…

يفقد شعب بكامله ذاكرته، ينسى عناوين وأرقام الطرق والشوارع والأسماء ويسقط في متاهة، كنتُ أظنّ قبل حقبة أن هذا لا يقع إلا في مدينة “ماكندو” برواية مائة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز، حتى فوجئت بأن ثمة شعب ما في دولة ما على سطح هذه الكرة الأرضية قد نسى كل ذلك وسجل ذلك على خريطة حقيقية لها حدود وشواطئ وداخلها مدن ويعيش فيها شعب قادته حالته لأن تتكرّر معه حكاية شعب ماكندو…هذا الشعب عاني الفقر والبؤس واليأس ولكن لم يفقد الأمل ورغم أن صوته انقطعت احباله ولم يعد يغني وأصابه شلّل لم يعد يرقص لكنه تمسك بالولاء والأمّل حتى لم يعد لديه ما يقدمه فنسى كل شيء…

في زاوية من ذاكرة شعب مملكة ياروبا القديمة، عاش شعب ممنوع من وضع النظارات السوداء، حظر التجوال بالليل، يعاقب كل من يقتني كتاب غير القرآن، فيما إلى جواره عاش شعب آخر برفاهية خيالية، تفوق الخرافة، حياة مرفهة، طابعها المرح والبساطة…

كان شعب مملكة ياروبا يومًا ما في ذاكرته تعيش حضارة عريقة، علوم ومعرفة وفكر حتى سلط عليه دكتاتور يدعي خردلة، جاء من سلالات نبهانية قديمة تعود إلى القرن السابع عشر والثامن عشر، وحط رحالة بالقرن الحادي والعشرين في هيئة خرافية قلبت المجرّة رأسًا على عقب وحدث أن فكر بعض المتنورين بطريقة للخلاص بينما كان بقية الشعب يرزح تحت نظام المحظورات…المذكورة سالفًا

فجأة حدثت هزة أرضية غير مسبوقة وكانت ذات أبعاد غامضة الأسباب والمسببات، فقد الناس ذاكرتهم ولم يستعيدوها حتى الآن…

الخالق الأول والخالق الثاني للكوْن!!

لا يختلف الروائي عن الخالق، سوى في المعاناة، الأول صنع المعاناة للآخرين والثاني اكتسب المعاناة من صنع الآخرين. ما يعنيني ومقالي بهذه الزاوية من الكتابة الآن هو الخالق الثاني، الروائي الذي مهمته عسيرة وليست سهلة بقدر مهمة الأول الذي شكل الكوْن وسرد الأديان، فالثاني الروائي، لا يختلف في مهمته عن الأول بالسرد، بخلق العالم أولاً ثم زرعه بالأحياء، الأبطال والكومبارس، تمامًا كما في العالم الأول، فقراء وأغنياء… يشتمل عالم الروائي بالرغم من الأجواء والمناخات الرتيبة، بذور الخلق الأولى، خلق البنية البشرية، رجال ونساء، أزواج وعشاق، راهبات وعاهرات، أبناء وأحفاد، مجرمين وقضاة، حكام وشعوب، ثم تتطور الرواية وتنشق عن أجيال وأجيال كما في روايات الأدباء الروس، تولستوي وديستوفسكي وكما في مخلوقات غابرييل غارسيا ماركيز وخلقه السحري الشنيع، ثم انقلابه على الأجيال وانعاشهم بحروب وصراعات، حتي يبلغوا بدايات النهايات، عوالم وروائيين آخرين مثل جون تشاينبيك وغيرهم بمثابة خلاق قاسين حينًا ورؤوفين نادرًا…

لا يختلف الروائي عن ربّ البشرية في صناعة العوالم المهدورة بالحوادث والكوارث ونادرًا ما تكون بميزان الكوميديا السوداء، وفي بساطة تقترب من المعجزة، يكتمل عالم الخلق الروائي، بحياة وموت وإصابات، ثمة أعراس وأفراح ولكن سرعان ما تنقلب مع رياح معاكسة إلى كوارث وهذا يدلّ على مزاج الخالق، الروائي، ما أذا كان يعيش بمجتمع منطويًا قائم على التقاليد والخرافات والتابو، والمحرمات، وانعدام الحريات، خالقًا دكتاتوريات كما هو في عالم الأول، فالدكتاتوريات بالعالم الثاني الروائي لم تأتِ إلا لأنها نشأت في عالم الخالق الأول، الربّ ومن هنا نسخ الخالق الثاني الروائي عالمه على نمط العالم الأول…

ثمة نتيجة تبرز نتاج ذريعة متعلقة بالخالق الثاني وربما لا توجد لدى الخالق الأول وهي معاناة تنبع بالخلق المتوتر، المشحون بوطيس حرب شنها الخالق الروائي على ذاته بصدد خلق عالمه الروائي…فأسوأ ما نتج عن هذا الخلق، الإبداع، لدى الروائي المقتحم للمسكوت عنه والخارق للمحرمات ومتحدي الدكتاتوريات، هي معاناة نتيجة الآلام الجسدية والنفسية والأطوار الغريبة نتاج غوصه الدائم وهو بصدد خلق ابطاله وأمراضهم وعلاجاتهم، موتهم وحياتهم، مقابر جنازات ونعوش وصدامات وحروب، أجواء ومناخات يخلقها الروائي تنعكس عليه شخصيًا بثمنٍ باهض  نتيجة هذا الإبحار بالخلق…ولكن لن يشكو مما يعانيه أو يتعرض له طالما هو الخالق، فلا يشكو…

هذا هو عالم الروائي بإيجاز وهو يقتحم من المحظور…