الشهر: ديسمبر 2022
ثنائية الموت والحياة في شارع النحس

صدرت مؤخرًا عن دار اسكرايب- القاهرة

رواية “شارع النحس” لأحمد جمعة
ضياء بهزادي فتاة تبدأ يومها بإسعاف فضل درويش الكهل بعد أصابته بجلطة في سوبر ماركات، ومن حينها تبدأ الحوادث تتدفق من حولِها، تُصادف خيانة خطيبها، بعد ساعة من ذلك، ثم تَصْدم عامل نظافة- عرفان رحمن- الذي جاء ومعه حلم الثراء بالعمل في دولة نفطية وتهرب، يُشَل العامل ويظلّ مسجى بالمشفى، مُخلفًا عائلته في بلاده بين عوز وفقر وقلق على حياته، فتتحوّل زوجته بيباشا إلى العاصمة للبحث عن وسيلة لإنقاذه، وتقضي وقتها تائهة بالبحث في الشوارع فيما تواجه ضياء التي صدمته نفسها بمواجهة ضميرها وشعورها بالذنب مما يسبب لها أزمة حتى تعجز عن قيادة السيارة، لتواجه نحس الشوارع يلاحقها، حتى تلتقي ثانية بفضل درويش الأب الذي اسعفته وقد فوجع هو الآخر بانتحار ابنه سلمان بجرعةِ مخدر…
تمضي الرواية في سياقات متعدِّدة في ترابط بين الاحداث والشخصيات رغم اختلاف أماكنهم وثقافاتهم وخلفياتهم الاجتماعية والمهنية، تحمل الرواية أفكارًا فلسفية حول ثنائيّة الحياة والموت وجوهر الحبّ وغرابته، مع بطل رئيسي هو- الشارع – الذي سببًا في جلب النحس…
فكما يكون الإنسان سبب في إنقاذ حياة الآخرين، فهو كذلك سببًا في دمار حياتهم! ذلك التناقض العجيب الذي يؤكد مرة أخرى على صعوبة فهم العقل البشري وإعجازه في نفس الوقت، فنحن جميعًا نحمل في داخلنا أكثر من شخصية، تظهر كلّ واحدة منها بشكل منفصل في أوقات معينة، وقد تظهر أكثر من شخصية في نفس الوقت في تعقيد متشابك وعصي على الفهم. عرفان رحمن رغم ألمه وتعاسته فقد كان سببًا في إيقاظ الحب المفاجئئ. لقد كان هذا العامل البسيط ذريعة موشاة في تدفق الحبّ في قلب بيباشا وقلب ضياء، وإعادة التوازن إلى حياة ضياء بعد فقدانها، وبداية رحلتها لإيجاد سلامها الداخلي. الصمت يحمل في داخله الكثير من الأجوبة وما علينا إلا اكتشافها عبر الاستسلام لذلك الصمت، تمامًا كما كانت نظرة عرفان رحمن شفاًء لقلب ضياء. غاص الشارع أمامها بمياهِ الأمطار، وكان ثمَّة بضعِ سيارات تائِهة بتلك الساعة، لم يخطر ببالِها وهي تقود أيّ من الأفكار المتعلِقة بالعالم، حتى أنّها رغم المطر وأضواء الشارع المنعكِسة على الزجاج الأمامي للسيارة، لم تشعر بالخوف، ولم يطرأ على بالها النحس مطلقًا، عندما اقتربَت من منزلها وقد ساوَرها النعاس، تثاءبت وابتسمت عندما خطرت بذهنها عبارات درويش، فكرَت بجوابٍ قادم لها عندما يسألها عن سلمان، ولكن فجأة قطع أفكارها بهذه اللحظة رؤيتها لعامل نظافة يحتمي تحت مظلّة سيارة عند أحد البيوت الملاصِقة لمنزلها اقتربت منه ورأته يتطلَّع نحوها وقد امتلأت عيناه بالأمل وانفرجت شفتاه بابتسامة وكأنّه ملَك العالم، نظر لها بلطفٍ بادلته نظرة طبعها الحبّ، توقفت عنده، فتحت حقيبتها وأخرجَت ورقة من فئة العشرة دينار، فتحت النافذة ومدتها له، خرج من تحت مظلّة مرأب السيارة وقد بلَّله المطر واستلم الورقة وفاض الفرح في عينيه وملأ وجهه كله. لم ترَّ وجهًا متفائلاً كوجه عامل النظافة هذا، وعندما سارت خطوات فجأة توقفت وعادت للوراء، فتحت نافذة السيارة فيما اقترب منها هو ثانية، سألتهُ عن اسمه فرد بوجهٍ هزيل وعينين رماديتي اللون وذات الابتسامة المُضيئة كأنَّها ضوءٌ من السماء.
“عرفان رحمن علم”!!!
حوار حول المسكوت عنه في الرواية والسياسة!
حوار حول المسكوت عنه في الرواية والسياسة!
نقرأ ونكتب ونتألم
نقرأ ونكتب ونتألم

ننصت لكي نشعر، نقرأ لكي نتألم، ونكتب لكي ننسى، بالكوْن مدار واسع لا نهائي، ونحن تروس متناهية في متاهته، لا نفهم الملهاة التي تأخذنا في حيزها حتى ندرك بعد فوات الأوان كم خسرنا أنفسنا من أجل حياة مترعة بالترهات. هذه الكرة الرمادية التي تشكل محور طوابق واسعة الخيال، نصعدها للأسف لا يدركها أولئك الذين اختزلوا الوجود في مساومة الدكتاتوريات ورهنوا حريتهم لمتعة الانصياع دون شعور بلذة الحرية حتى لو جاءت على جناح ملاك من فردوس الأمّل.
في رواية متاهة الأرواح لكارلوس زافون الإسباني، سحرتني فقرة في روايته الملحمة “نحن نتحدث عن جزار وضيع، سجان موصول بأدنى مستويات النظام، يوجد عشرات الآلاف مثله، تلتقين بهم كل يوم في الشوارع، لديهم علاقات وصداقات ومعارف من المناصب العليا، هذا صحيح ولكن في النهاية مجرّد لاعقي مؤخرات، حثالة وخدم طموحون، فكيف يستطيع رجل على هذه الشاكلة يصعد بأعوام قصيرة من مجاري القذارة إلى أعالي النظام؟”
عالم الرواية هو ما قصدته بأن نستمع ونقرأ ونكتب، حتى ندرك لغز الكوْن، ونتوغل في مداره ما يمكننا بالتعبير عن الآلام التي يخلفها بشر من زريبة الحيوانات المفترسة ببشر من الملائكة، حتى الشياطين لهم أرواح أرق من بعض البشر، الذين رهنوا قبضتهم لأنظمة انتهت صلاحيتها بأثرٍ رجعي ومع ذلك هناك من يحقنها بالنفاق أو بقبضة جلاد، أو بالنفخ فيه حتى يسترجع الروح المتبقية في أسلاكه.
نقرأ حتى نتألم ثم نكتب حتى ننسى الألم، نبحر في فلك الكلمات والحروف لأنه خريف العمر الذي نجني فيه محصول الحرية التي ربما ضحى الكثيرون في العالم من أجل أن نبلغ أعتابها. حرية لا تأتي إلا مرة واحدة بالعمر، وتتشكل من أطيف من الألوان، كأنه قوس قزح، نجري وراء سراب الضوء كي نبلغها مهما كان الثمن. ولكن حين تلوح بالأفق السرمدي نكون قد انفصلنا عن اللعبة القذرة التي ابتلعت أغلبنا من الكتاب والمثقفين والسياسيين في مجاري مستنقعات ما نظنه فردوس النظام، وما هو سوى زريبة طفيليين يتغذون على بقايا مائدة هذا النظام…
نستمع للذين يعانون حتى نشعر بهم، ونقرأ حتى نتألم معهم ونكتب حتى ننسى الألم معهم…
هكذا نحن الكتاب الذين انعتقنا عن مجرة مثلث المحرمات الدين والسياسة والجنس، وتورطنا في مدار الحرية نقرأ ونكتب بمدادٍ ملاكي غير ملوث في مستنقع النفاق…