الروائي الذي يعمل على انطاق الصمت

  البلاد: أسامة الماجد   قبل أيام زرت الكاتب والروائي القدير الزميل أحمد جمعة في منزله، وتبادلنا أطراف الحديث أو كما يقال ” ثرثرة مثقفين” ووجدته يعيش تجارب حقيقية عميقة صادقة مع الرواية، مندفعا إلى الأمام محطما كل ما يواجهه من حواجز أو صعوبات. جوهر العبقرية يكمن دوما في انفعال فريد متقد، يتوهج داخل شخصية فريدة متقدة، تندفع دوما مع آلامها وأفراحها في مغامرة لا تحدها حدود، ولا تأبه بقاعدة، وزميلنا أحمد جمعة كذلك. وجدته يشتغل على رواية جديدة وكأنه يعمل على إنطاق الصمت في أجواء تشبه الأساطير بكل الثيمات والنماذج، وأي رواية يكتبها تتحرك وفق حركة دائرية نهبط فيها إلى ظلام العالم السفلي ، لنعود من هناك إلى ضياء عالم سعيد والى بعض من رموز ذلك العالم. روايات أحمد جمعة تعطي الذهن شيئا من الحيوية وتصفع الكثير من القناعات الروائية البالية التي ابتليت فيها الساحة العربية، ومن هنا فهي تحفز على البحث وتفجير كل الخصائص التي من شأنها أن تعزز رحلة البحث، لأن كاتبها احد طليعة كتّاب الرواية في الوطن العربي، وواحد من قلائل من كتابنا الذين تميزوا بصوت خاص في الرواية في مملكة البحرين بكل الألفاظ والعبارات. ومن يتأمل في الأعمال الروائية التي حظيت بشهرة عربية واسعة والتي وضعت كاتبنا أحمد جمعة في مصاف الكّتاب الذين طبقت شهرتهم الآفاق، فإنه سوف يقع على حقيقة مفادها أنها ملازمة وتعكس أزمة الإنسان المعاصر على المستوى الفردي والجماعي، وتتميز بالأفكار المتمردة العاصفة والباحثة ترافقها نكهة شعرية تتحرك في عالم غريب بمقدار ماهو مدهش. قرأت معظم روايات احمد جمعة ،  القرنفل التبريزي، يسرا البريطانية، حرب البنفسج، لص القمر، شاي مع ماريو فيتالي، رقصة أخيرة على قمر أزرق، بيضة القمر، الخراف الضالة، خريف العرش، شارع النحس، خريف الكرز، قمر باريسي، وغيرها، وحاليا أغوص بين أعماق روايته الأخيرة الغانية والبحر، ولن أكون مبالغا أن قلت إنها ضرورية ضرورة الخبز واللقمة للحياة بالنسبة للمهتمين والقراء وحتى الأدباء أنفسهم لأنها روايات تعطيهم الصورة الكلية لمعنى الإبداع.  

وحدي والحرية خارج السرب!

وحدي والحرية خارج السرب!

“الكاتب لا ينهي روايته أبدًا بل يتخلى عنها”- غابرييل ماركيز

كرنينِ الذهب ووزنه تفوق الحرية الكرة الأرضيّة، إنها الحرية…

تنويه: هذا المقال كتبته وعدتُ اليوم قراءته وأنا أغادر صحراء الصحف الورقية العربية، لرحاب أوسع من الحرية ملأت فيه الرواية كل مداري:

حان وقت إجازة للتنفُّس بعد أربعون سنة كتابة… وفاء للحرف والكلمة والقلم، ما أعظمها من حساسيّة، الكاتب غير الصحفي، هذا ما فهمتهُ بعد تجربة حقبة أربعين سنة برحى طواحين الكتابة وأتون القلم، بين مجلة وجريدة وصحيفة، وهنا أيضًا فرق لن أدخل بالتفاصيل…لم أتعب يومًا ولم أتوقّف بسبب مرض أو سفر أو إجازة إلا بحالةٍ طارئة خارج سور الإرادة حين يستعصي القلم وتبدو النفس تتوق للتنفُّس والتحرُّر من مسئولية الكلمة…أشعر بأنّني كنت سجين الكلمة، لكونِها عصيّة على الكاتب عندما يدرك حساسيتها…فتخيّل أربعون سنة تحمل على ظهرك جبل اسمهُ الكتابة الحرّة.

لا أقول تعبت ولكن حان فاصل أخذ استراحة، تنفُّس ونقاهة وتحرُّر من عبئ الوقت ومواعيد الكتابة ومطاردة التسليم وردود الفعل، والاكتفاء بكتابة خارج السرب حتى لا أكون ملتزمًا بمسئوليّة مرهقة كالتي حملتها لسنواتٍ…مع جرائد ورقيّة انتهى موسم الورق في أنحاء العالم وحلّت مواسم التحليق والتألُّق في فضاءات الكترونيّة بلا قيود.

القلم يتعب قبل الكاتب صدقوني لذلك استقال وحلَّ مكانه الكيبورد…والكيبورد مغري بدرجةٍ لا تُصدق للكتابة ولكنه لا يقل خطورة وتهوُّر عن القلم لا فرق بينهما برحلةِ الكتابة، تأخذك مسافات تعلم أو لا مداها…كنت بهذه المدّة كاتبًا مسئولًا أمام نفسي ومجتمعي، مسئولاً أمام الحياة ذاتها… لم أُجرح ولم أتعد ولم أسيء ويكفيني أنّني لم أتورّط بترهاتِ ردود وشجارات ومماحكات عقيمة، لأنني كنت أدرك أن الأسلوب هو الكاتب …أكتب ما تشاء ما يخلد برأسك بطريقة يقرأها الجميع من دون تعريض أو تحريض أو إساءة هذا هو الكاتب. لا تكن عبدًا لإيديولوجيا ولا تستبدل الإله بصنم أو صنم بأيِّ إله. لا تخشى العالم لو ثار ضدك لأنك ستكتشف بعد حين هذا العالم قد سار على طريقك. أنت وعقلك المستنير خارج مدار القطيع وهذا يكفيك اليوم في عالمٍ حُرّ.

ربما هذا الأسلوب أتعبني وربما أبعدني عن الإثارة وربما لم يعجب البعض أو يُغري البعض ولكنه اسلوبي الأثير الذي جعل من الراحل الكبير سمو رئيس الوزراء خليفة بن سلمان طيب الله ثراهُ يقول لي يومًا وبحضور الجميع…”لا تتوقف يا أحمد عن الكتابة لأنك تعرف ما تكتب عنهُ”…هذه صعوبة القلم والكلمة والحرف، أنك تعرف ما تكتب عنه ولهذا تعاني… لم أعاني يومًا! فقد كنت أنسج مقالاتي من وحي ما أعرفه وأحسهُ وأؤمن به حتى لو خالفت السرب ونقضت الموروث وهذه مجازفة وجسارة!

مقابل أربعون سنة حروف وكلمات وخطوط حمراء وصفراء وخضراء، وذهن منهك وأفكار تحتشد وطريق طويل متشعِّب وبعد رحيل من ظلّ حافزًا للكتابة أجد نفسي بحاجةٍ للتنفُّس لوقتٍ ولفترة أرى خلالها من زاوية مختلفة…لم أهجر الكتابة بالطبع فهي الأوكسجين بدونه تغادر الروح ولكن للتنفُّس من جديد وبأشكال مختلفة، فهي وقفة تأمُّل مع الذات والموضوع أفهم ما يجري؟ لأنّني بلغتُ ناصية أسميتها التفكُّر. ولأنني بمنطقة حساسة الوفاء فيها نادر!

تسقط الأورق مؤقتًا وتبقى الأغصان أبدًا لتوْرق ثانية!

من رواية “ابنة زنا” تصدر لاحقًا

“عفاف، فرح هي والدتك الحقيقيّة، مني أنا بالطبع”!!

 رنين هذه العِبارة خالد في رأسي ومعه سيلٌ من حمّم بركانيّة، نهرٌ لا نهاية له، بحرٌ من الرمال المتحرِّكة تقفز بيّ من كوكبِ الأرض إلى كوكب مسخ وتعود بيّ لكوكب الأرض فأجد الواقع ليس واقعًا والخيال ليس خيالاً وأنا لست أنا، وكل ما عرفته مرّرت به وحلمت به وسافر في خيالي، كان سرابًا ما عدا يوسف وفرح اللذين صارا هما ما بعد الواقع. أقفلت عليّ الباب لليلتين سديميتين ظلّلتُ أحصي في عتمتهما أعداد السنين والشهور والأيام التي جمعتُ خلالها النجوم في السماء وحضنت الأقمار في كل ليلة أسبح فيها عبر الشرفات والنوافذ يحدثني عن السهر والليل والنجوم ونرسم معًا كحالمين بالتغيير على طريق الأحلام وسُبل تحقيقها…ليلتان لم أنم فيهما ولم احتسِ سوى جرعات مياه ومسكن من أقراص زناكس، اعتدتُ كل عام على ابتلاع حبة أو حبتين أستعيرهما من أبيّ عندما أكون بألم الدورة الشهرية حينما تخرج عن السيطرة أو بحالة نفسيّة تستدعي الذوبان في غيبوبةٍ أخرج منها بعد جولة نفسيّة تخيّم عليّ ظلال قاتمة، لا تفسير لمصدرها سوى العزلة، ينتشلني الأب الأسطوري الذي لا أقارنه بإنسانٍ سوى به هو ذاته. لم يطرُّق الباب سوى مرة واحدة وكأنما يخشى المواجّهة معي، وبالمرة التالية كانت فرح التي طرقت الباب بعد إجرائها عملية غسل الكليّة ثم صمت حتى يئستُ وضاق صدري وكاد ينشطر فاستدرجتُ يوسف بحيلة أنّني أريد العودة للديار وكانت تلك صدمة الموسم الصاعقة، فهو يدرك حجم كرة الرماد المعجونة بالخيبة التي فوق رأسي من ظلال الوطن ومدى بغضائي لترابه لمجرّد العودة للظلال الكئيبة تحت سقف غرفتي التي لا أكاد أغادرها. كانت حيلة مُفبركة لاستدراجه وإخضاعه لموجة تأنيب لا يخرج منها انتقامًا مما لحق بيّ من تزوير. أما فرح فقد أجلت مهمتي الرمادية معها حتى أفكِّر بكيفيّة التعاطيّ والتحُكم بانفعالاتي مع “شقيقتي” سهام خلف من والدتي فرح التي أودّ أن أحكي معها عقديّ زمن حتى أعبر نفق العتمة التي كنت في قلبها السرّي وكيف مضت تلك الذكريات، أيام وليالي وساعات ودقائق وثواني، كيف تحملتُ كل هذا الغياب؟ هل كانت تعلم بتطور نمو ابنتها؟ وهل هي من أسمتني وهل أحبتني كما أحبت سهام ودينا؟ وووو وكل هذه الفضاءات التي غابت عني ماذا كانت تفعل هي غير الأحزان والذكريات وما الداعي للتخلي عني؟ يا للهول من هذه الأسئلة ومن أجوبتها الخرافيّة.

قبل استدراجي له ولعبتي التي بدأتُ أنسج خيوطها لأجعل منه إلعوبة بيدي وأنتقم ولو من أول يوم سرقني من وجودي الحقيقي وحشرني في العدم، طرقتُ بحذرٍ شديد شرفة سهام التي يفترض أن تكون شقيقتي ليس في الخيال الهندي بل هي الواقع الذي طارد أبي وما يفترض أن يكون والدنا نحن الاثنتين. اتصلتُ بها بعد منتصف الليلة الثانية وأعرف أنها لا تنام مثلي، أتاني صوتها يشي بنبرةٍ سماوية أدركتُ معها كيف ظلمتُ ابتكاراتها العصيّة على الفهم من أجل الوصول لشاطئ المرح الذي نحن فيه الآن:

“أظنّ الآن أنتِ بحكم أختي سهام، أم أنا مخطئة وما هذا سوى كابوس مرّ ببطء؟”

“ولماذا لا يكون حلمًا جميلًا عاد بنا إلى أرض الواقع؟”

“موسم الجسد في بيت دلال”

من رواية الغانية والبحر

صدرت حديثًا عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع- القاهرة

عاشتْ جوري منذ بَلغتْ الرابعة عشرة بتلك الدار ورَمتْ وراءها كلّ العالم الذي لم تعرف منه سوى اسمها… وخضعتْ كلية لرعاية المرأة الأربعينية البيضاء المدعُوّة دلال التي انقذتها من العمل بالمنازل والتعرض للتحرش وقدمت لها الطعام والشراب واللباس والمنام والحرية! ولكن أخذت منها فقط الجسد…وهذا ليس بالكثير مقابل ما نالتهُ من حياةٍ هانئة، فماذا يعني الجسد وهي التي لا تَذكّر حتى متى وكيف وُلِدتْ…؟

موسمُ الخريف يشبهُ مَوسِم الثلج الذي أضحكها وجعلها تكتمُّ السرّ عن زوجها صالح عندما قدّمَ لها الثلج أول مرّة باعتبارهِ اكتشافهُ السحري…عَرفتْ الثلج قبلهُ بسنواتٍ في بيت دلال، وعرفتْ معهُ مواسِم الصمتْ في بيوتٍ لا يتَخلّلها الهواء وتَعبقُ بدخان السجائر وعدم البوح بكلِّ ما يجري فيها، فشعارها الصمت والعمى، فمن شروط من يحيا ببيتِ دلال ألا يتكلم ولا يرى… شَمِلَ جوري الصمت مثل غيرها من فتيات الدار. اخْتَفتْ كمّا الغيم حين يسبح، غابتْ عن البيوت والخدمة والتسكع… لم يترك غيابها أثرًا في أحدٍ فهي وحيدة، كانت في حياة أخرى زوجة وفي حياة أخرى أيضًا زوجة…! فمن رواية إلى أخرى تَبَدَّلتْ حياة جوري! وهذا غير مفهوم للقارئ! أصبح غياب جوري مُسَوْغاً لعالمٍ آخر يُدِلّ على تناسخ الروايات… رأى فيها البعض ذريعة للفرار من الواقع المُرّ وهو ما لم يفسرُ سرّ اختفائها! لغز جوري سيبقى شاهدًا على عصرٍ بحاجةٍ لقراءة أخرى مختلفة!!

“عندما تُولد بلا اسم ولا بيت ولا أسْرَة…حين تَجدْ نفسك وحيدًا في الدنيا بلا أمَّل ولا عنوان أو مكان… حين تُجَرّدُكَ شدّة الألم من الشعور بهِ عندها تَقْبل بكلّ ما يُعرض عليك…لا تهمك سمعة ولا كرامة ولا أقوال الناس فيك…هذا ما واجهتهُ منذ وَعَيتُ الحياة. اسْتَسْلمتُ لمصيري وجَريتُ وراء رزقي للعيش فقط وليس لأي شيء آخر. لم أفكّرَ بنوع الملابس وقيمتها ولا بمذاقِ الطعام بل بما يَسدّ الرمق… لا يعنيني أن بدَوّتُ جميلة أو قبيحة ولا يهمني إن تزوجت أو تشردت… المهم ألا أنام ليلة بجوعي…كنتُ وحيدة في مدينةٍ ضبابية لا ترحم. تهتُ بين أزقة وأحياء وطرقات، طاردني كلَّ أنواع الرجال وكأن ملامح وجهي تنبئ بأني سَهْلة المنال رغم أنني ظلّلتُ لسنواتٍ محافظة على عفتي حتى بلغتُ الرابعة عشرة، فقدتُ حينها إيماني بأن الله قد ينتشلني من مستنقع فيه كلّ الفطريات التي خلّفتها مدينة المحرق…”

مدينة رمادية باردة تبتلع الحلم!

من رواية في الطريق…

هوى العاشق، جرح ينزف بالهوى…لمن تُصلي؟ ومن أين؟ من مُدن السكر تغريني بالعيش فيها هربًا من العطش، أم مُدن القهوة.؟ فهي تمدني بالشهوة والإلهام للكتابة فيها هواء الروح…أما مُدن الملح المُتجمِّدة، فهي تنسيني مذاق القهوة السوداء تثير بيّ الشجن والحنين، وطعم النبيذ يسحرني ويسيل كلماتي ويفقدني أسلوب الخضوع للدكتاتور القابع بداخلي وهو يغريني بتجنُّب الجرأة…مدينة الرماد تبتلعني…يا للهول…

الكتابة حرية، ولكن أيّ مُدن تستوعب تعبك، أن تؤلف فيها ما يخالف الأعرف؟ أيّ المدن تستهوي خيالك الواسع وأنتَ تُحلق به مجانًا دون جواز سفر سوى جرأتك وحريتك وهما عملتان نادرتان بزمنِ البيع والشراء في الأجساد، فما بالك بالأرواح التي أضحت برخصِ الوبر لأن التراب لم يعد رخيصًا في مدنٍ تبتلع كل شيء وأوله الإنسان…أنتَ تغامر بالهرب واللجوء والنفي ولكن قلبك مع الحبيبة الأولى، مع العشق الذي لا ينتهي، تُصلي له وتعبدهُ وترسم وشمًا لا يُمحى حتى لا يا تستيقظ شهويتك بغتةً وتصطدم بحريتك…لا يمكنك فصل الحبّ عن الحرية…ممنوع عليك اليأس أنت بالذات، اختر الموت بديلاً للمساومة، فالهواء والهوى عاشقين لا فرق بينهما…في يومٍ عاديٍ لا يمكنك وقف النزيف وإلا تحوّلتَ لصنمٍ أو ورقة صفراء لا تنسجم مع القلم الحُر العاشق للحبيبة المنتظرة مع غيمة شمسية وعَدت بالمجيئ وما فتأتُ أنتظرها.

أسمَع في هذه اللحظة موسيقى شهرزاد لريمسكي كورساكوف…عالمك يغُص بالصور، بالذكريات…اهرب مع النزيف خارج مدينة الرماد…مدينة تزدرد الإنسان وتُعظم المال، تزاوج الفقر مع الدكتاتورية لا يُولد مدن وردية كالعاشقة التي تحلم بها…فالمدينة الحبيبة هي تلك التي لم توجد منذ وُلدت وحتى تُدفن، ما لم تقع المعجزة!! هاجر أو مُت في مكانك…أهرَب أو أختبئ عن الطاغوت، لمتي؟ أكتب بحبرٍ سري روايتك المستقبليّة، فدار النشر أُحرقت من قِبل دكتاتور قزم، له رائحة فم كريهة…اهرب ولكن في النهار! اختبئ ولكن في الضوء…إياك أن تستنجد بالظلام، فالظلام جزء من المؤامرة عليك وعلى عشيقتك المدينة المُغتصَبة…

هل لديك أُسرة مكونة من زوجة وأطفال؟ أنت جبان لا تقدر على الهرب. قف في ظلك ولكن تحَلّ بالجرأة وإياك الخيانة فهي برخصِ التراب…عندما تخون لا قيمة لك، لا تساوي حتى حفنة التراب التي تقف عليها…عالمك بارد…كئيب…دع الكلام المُباح وأطلق العنان لحروفكَ وكلماتك وعد لزمنِ الطفولة، سترى صورتك، عاريًا ولكن حرًا…هل فهمت لغزي حتى الآن أيها الطير المنفي بالوطن…!!!

أزمة فساد ثقافي***

احمد جمعة

روائي بحريني

تلوين الثعابين الثقافية في حفلات الزار الراقصة***

لغة الثعابين البشرية تنتهك عذريّة الثقافة وتَرْجم الأدب برشاوٍ بخسة، لكنها بجيوب المتسولين بعتبات الثقافة المُدجَنة تعادل وزن الذهب ولهذا لم يعد للرواية والنقد والسرد عموماً تلك الومضة الساطعة، وإذا ما ثبت وجودها فقد انحسر عنها الاهتمام إذا لم ترافقها إكراميات صغيرة تُدَس بين حينٍ وآخر بشكل تذكرة سفر وإقامة بفندق مقابل مقال مديح  مفضوح يبرز لجم الثمن مقابل الهدية، الثعابين البشرية ليست سامة فهي وديعة ورومانسية وتتعرّى ساعة يُطْلب منها كشف ما تملكه من إثبات على الردح بأيّ اتجاه يأخذها شراع الهرم الثقافي الرسمي وحتى الشعبي!!! فالردح غطي سوق عكاظ بالكامل ومعه سوق الفواكه والأسماك الكوكتيل المطلوب تغطيتها، فهل بعد ذلك ننتظر ثقافة تسود وتقترب من العالمية؟

لأننا نسأل لماذا لا نصل العالمية؟ ولأننا نستغرب من استبعادنا من المركز الثقافي العالمي وسجننا بالمحيط المحلي والعربي المحصور بين بضعة دول غنية وفقيرة سيان، تحتكر فيها المؤسسات الأدبية والثقافية الحبكة الدرامية لحفلات الرقص الثقافي، ينشأ الاستغراب والدهشة من انحصار الفعل الثقافي في إطار المحلية، ولم يكسر احتكار المؤسسات الرسمية والأهلية الثقافية المترهلة منذ سنين رغم فداحة الميزانيات المخصصة لها؟ الجواب، الفساد الأدبي والثقافي يعشعش بداخل هذه المؤسسات العربية الثقافية.

 فساد الحياة الثقافية العربية لا حدود له فهو يشمل المؤسسات الرسمية والأهلية والمؤتمرات والفعاليات المختلفة، التي وقعت بآفة الفساد المستشري بالجسد العربي الذي خضع للتبادل الشللي، أقفز بيّ وأقفز بك، حتى صار القفز اللغة السائدة بساحة القفز الأدبية، فمن لا يستطيع القفز بالحواجز الرشاوية ولا القفز بالهدايا ولا يملك رياضة القفز فهو خارج حلبة القفز الثقافي، فبعد فساد الأمكنة السياسية والسياسيين امتد هذا الفساد واستشري بالحياة الثقافية بغالبية الساحات العربية والخليجية التي رزحت بأشنع مظاهر الفساد والتي فاقت حتى الفساد السياسي ولكن العين غضت عن الساحة الثقافية والأدبية لأسبابٍ عدة، منها عدم اهتمام الرأي العام بالساحة الثقافية، ولعدم توفر متابعين لهذه الظاهرة في لصحافة والإعلام، ولانغماس الكثير من أصحاب الأقلام والكتاب في هذا الفساد ذاته التي يكاد يغطي عموم الساحة العربية، دون أن يلفت الأنظار لأنه يتحرك بداخل أروقة سرية ومستجدة لم تمتد لها بعد عيون المتربص!!

ما الذي يجري داخل أروقة الثقافات السرية التي اقتصرت دوائرها على أعداد محدودة من المسئولين الذين تولوا شأن الثقافة والأدب بالمؤسسات الثقافية الأدبية؟ ثمة فقاعات تبرز بين حين وآخر يتم تغطيتها بسرعة هائلة وثمة مظاهر للفساد بداخل المؤسسات الأدبية الرسمية والأهلية لا يمكن الوصول إليها لأن القائمين عليها تمكنوا من تحصين قلاعهم طوال هذه السنوات بشلل وزمر من المراوغين من إعلاميين وصحفيين قاموا بالتغطية على تلك المظاهر الفاسدة بل والمشاركة فيها والتورُّط مع هؤلاء لأنهم ببساطة تم احتوائهم بهدايا ورشاوى على شكل دعوات وسفرات لحضور وتغطية الفعاليات التي يديرها هؤلاء المسئولين المستفيدون من توليهم قيادات هذه المؤسسات.

ما هي أهم مظاهر الفساد الثقافي والأدبي البارزة اليوم؟ والتي لا يمكن إخفائها، ورغم ذلك لا تجد صدى لإثارتها والوقوف عندها رغم انتشار رائحتها بالساحة الثقافية بالمنطقة العربية عموماً.

هناك فضائح أدبية يمكن أن تؤدي بسمعة بعض المؤسسات الأدبية العربية إلى الهاوية لو فتحت ثغرة داخل هذه المؤسسات وتحدث أحد الذين ينتمون إليها وكشف المستور، هناك أسماء كبيرة تبتز المسئولين للوصول إلى مراكز عليا بصنع القرار الثقافي، وهناك شخصيات تحتل مراكز أدبية وثقافية تربط نفسها بعلاقات شخصية بمسئولين عن مراكز إعلامية وثقافية وأدبية عربية وعالمية من خلال تبادل المصالح بالزيارات واللقاء وصرف التذكر والسكن بفنادق الدرجة الأولى، مقابل أن يجري ذات التبادل بين الطرفين، بمعنى أدعوني وأدعوك وهذا حاصل حتى على مستوى شخصيات أدبية وثقافية لامعة بالمنطقة وخاصة بين دول مجلس التعاون.

من الظواهر المقززة بهذا المشهد دفع الرشاوى لبعض الصفحات الثقافية الخاوية أصلاً لتغطية تلك الفعاليات التي تبرز أنشطة هؤلاء المسئولين بالمؤسسات الثقافية سواء الرسمية منها أو الأهلية وهذه الرشاوى تأتي على هيئة دعوات رسمية للفعاليات الثقافية والإعلامية مع ما تحمله من تذاكر سفر بدرجة رجال الأعمال وحتى بالدرجة السياحية لبعض مرتزقي الصفحات الثقافية مع سكن بفنادق درجة خمس نجوم وأربع نجوم وحتى ثلاث نجوم ببعض الدول العربية الفقيرة التي هي الأخرى ابتلت بهذه الآفة.

لم يعد قلم الأديب ونتاجه ومضمونه المغزى من الإبداع بل المهرجانات الاستعراضية الاستهلاكية التي دمرت الإبداع وحولته لمولد ابتزازي يجمع كل النسيج النفاقي تحت طاولة واحدة بالفساد، لا يعني ذلك بالطبع اختفاء الإبداع من الساحة، على العكس من ذلك هناك بين جبال النتاج الاستهلاكي تكمن ومضات خاطفة من نتاجات إبداعية أثرت الساحة ونافست الأعمال العالمية وشقت طريقها نحو القمة وفي هذا عزاء للذين يشاهدون حفلات الزار الثقافية التي تقام على هامش مهرجانات ومعارض وحفلات وموائد عقيمة مكتظة بالأكل في المطاعم والنوم بالفنادق والسفر بالطائرات تصحبها حفلات خرافية تعني بتوقيع وتدشين الإصدارات حتى لو كانت نفايات المطابع الرخيصة التي تطبع إسفاف الدجالين فالمهم أن تخرج عن الورق والحبر أعراس ثقافية مشوهة تواكبها تغطيات إعلامية كئيبة مدفوعة الأجر بشكل هبات ودعوات فكثير من الصحفيين الطارئين مستعدين لتغطية هذه المهرجانات مقابل أكل وشرب ونوم.

حين تسافر لبلادٍ نائية عن محيطنا تحترم الورق والحبر وتزور خلالها مكتبات ومتاحف وصالات عرض ترى بغبطة الفكر والفن والأدب والثقافة برصانة لا يضاهيها الذهب ولا يوازيها شيء سوى الإحساس بالإنسانية والحضارية، لا شيء من النفاق ولا الفساد وإذا وجد فاسد أو ظاهرة شاذة لا علاقة لها برصانة الفكر والأدب سرعان ما يمسحها زلزال النقد الصارم الذي لا يسمح بمرور أنصاف الثقافات، لهذا نشأت مناخات عالمية خلال العقود المنصرمة لأن الثقافة هناك لا تحتمل الإفساد، فكل شيء يمكن أن يتسلل له الفساد إلا الثقافة لأنها هي ذاتها تمحو الفساد بأي مجال.

المنصة القائمة عندنا بعالمنا العربي والخليجي على ثلاثة أعمدة فقط، هي التي تزدهر عليها النتاجات الصادرة من فوهات غريبة المصدر وتستولي بالمناسبات على منصات صغيرة متناثرة بقوائم مشوهة تستحوذ على الأعراس المسماة بمنصات التدشين!! واووو، حفلات تدشين من غير شمبانيا كيف نحتفل؟ ولكن الحفل يستمر طوال فترة المهرجان وينشده القاصي والداني ويشتبك مع حفلات الزار التي تُسْفك على منصاتها تواقيع الكوكتيل بلا خجل من نجيب محفوظ ولا أدنى احترام لطه حسين ولغيرهم ممن رحلوا ولم يركبوا المنصات المعوقة ولم يشهدوا حفلات الزار المغشوشة التي صدق زوراً من أقاموها بأنهم أصحاب القلم.